هز الفيكونت كاتانغا رأسه لا شعوريًا، فلم يستطع التصديق .
قبل القدوم إلى العاصمة لحضور المأدبة الصيفية، كان الفيكونت كاتانغا و زوجته مليئين بالآمال. لم يكن الأمر مجرد أن هذه هي المرة الأولى في تاريخ العائلة التي يحضرون فيها مأدبة صيفية، بل تلقوا دعوة مباشرة من صاحبة السمو الأميرة نفسها .
نعم، دعوة !
" … دائمًا ما تأتي الشائعات التافهة من الأقل شأنًا، و عليك يا فيكونت أن تتأكد من أن الأقل شأناً يلتزم الصمت، حتى لا تنتشر الشائعات بأنني أقمت هنا لفترة طويلة، هل تفهم ما أعنيه ؟ "
تذكر الفيكونت بوضوح الأمر السري للأميرة في ذلك اليوم. نظرتها المهيبة التي حبست الأنفاس، تلتها دعوة إلى المأدبة، لهذا السبب، حذر خدمه بشدة لأول مرة، ولكن الآن، يقولون أنه ليس في قائمة المدعوين ! هذا أمر لا يصدق .
تذكر الفيكونت صوت الأميرة و تقدم خطوة أخرى . تحت حرارة الشمس الحارقة، لم تتغير تعابير وجه فارس القصر الذي كان ينظر إليه ببرود. كان الفيكونت على وشك فتح شفتيه متجاهلاً قلبه المتردد .
" أيها الفيكونت، لنذهب."
من الخلف، همست زوجة الفيكونت وهي تمسك بكمه. استدار و رأى زوجته، وجهها محمر وخيبة الأمل تملأه، وهي تبتسم بصعوبة .
" الجميع ينظر من الخلف."
آه … حينها فقط، أدرك الفيكونت وجود الخدم خلفه . ربما لم يسمع السائقون الذين كانوا يقفون على مسافة بعيدة هذا، لكن الخادمات اللواتي كن يقفن خلفه مباشرة قد سمعن الرفض مرتين بالفعل .
كانت كرامته قد تهشمت بالفعل. اجتاحه شعور بالخزي لم يتوقعه مرة أخرى. ارتجفت شفتا الفيكونت، و ابتسم بصعوبة وهز كتفيه، ثم استدار وكأن الأمر لم يكن كبيرًا .
" حسنًا، بما أننا أتينا بالفعل، فلنتجول في العاصمة."
حتى تلك اللحظة، اعتقد الفيكونت أنه لا يوجد خيار آخر . على الرغم من غضبه، إلا أنه اعتقد أن صاحبة السمو الأميرة، التي كانت مشغولة للغاية، ربما تكون قد نسيت الأمر .
كان إرسال رسالة إلى البارونة روهاس، التي كانت مربية الأميرة، هو الخيار الأفضل و الأكثر واقعية في ذلك الوقت.
حينها … سمع صوت أحد فرسان القصر من الخلف .
" حقًا، ما أشد كرم صاحبة السمو الأميرة لدرجة أن حتى من لا يحملون ألقابًا عظيمة يأتون هكذا دون دعوة."
توقفت خطوات الفيكونت فجأة. شحبت وجوه فرسان كاتانغا الواقفين أمام العربة، وكذلك الخادمات، لكن الكلمات من الخلف استمرت مرة أخرى .
" ألم يكن هناك عدد لا يحصى من هؤلاء الأشخاص العام الماضي أيضًا ؟ نبلاء قرويون يعتقدون أن مجرد ذكر أسمائهم سيسمح لهم بدخول المأدبة."
تلاشى صوت الضحكات المتهكمة بعيدًا بعد هذه الإهانة الكبيرة، وكأنها مقصودة .
نبلاء قرويون، و مظهر الخادمات اللاتي كن يحنّين رؤوسهن دون حول ولا قوة . كان ذلك كافيًا لإشعال النار في قلب الفيكونت الذي كان قد هدأ بصعوبة. اشتعلت الشرارة في عيني الفيكونت الذي احمرّ وجهه و ازرقّ .
دون أن يوقفه أحد، استدار الفيكونت فجأة و تقدم نحو الفرسان صارخًا .
" ماذا ؟ أعد ما قلته الآن ! "
*
*
" … أيها الفيكونت، عزيزي، هل أنت بخير ؟ يا إلهي، ما هذا الذي حدث ! "
تلاشى صوت زوجة الفيكونت الباكية. تنهد الفيكونت بحسرة و نظر إلى السقف وهو مستلقي .
لم يتذكر حتى كيف وصل إلى المسكن .
" إيه، تفّ، ما هذه الفوضى منذ الصباح."
تردد صوت فارس القصر الذي دفعه وكأنه يهينه. أدرك الفيكونت بوضوح كيف تم التعامل معه .
لقد طُرد من أمام البوابة الرئيسية للقصر وكأنه قمامة، وذلك أمام خدمه و رعاياه . اجتاحه الغضب و الخجل و الإذلال. لو كان في إقطاعيته، لما ظهر بمثل هذه الصورة السخيفة .
ماذا فعل لفرسان القصر حتى يهينوه هكذا ؟ فكرة واحدة تبعت الأخرى. عاد السهم إلى الفيكونت نفسه . ماذا كان يأمل من ثراء و مجد ليغادر إقطاعيته ويأتي إلى هذه العاصمة ؟
لقد ظننتها مجرد فرصة جيدة . فرصة لعائلة كاتانغا لدخول طبقة النبلاء المركزيين، و فرصة لترك انطباع لدى العائلة الإمبراطورية. فرصةٌ لتجربة المأدبة الفاخرة التي لطالما حلمت بها زوجته .
هل كانت توقعاتي مبالغًا بها ؟ لم يكن الأمر كذلك، لقد تلقيت دعوة من صاحبة السمو الأميرة، لا بل من الأميرة نفسها، ولكن عائلة كاتانغا الفخورة ليست حتى في قائمة المدعوين .
هذا خطأ الأميرة … على الرغم من أنها كانت فكرة جريئة لم يتخيلها من قبل، إلا أن الفيكونت لم يكن يرى شيئًا أمامه الآن .
انتشر استياءه تجاه الأميرة كالنار في الهشيم . الأميرة العطوفة كالقديسة، الأميرة التي تحتضن الجميع. تحطمت الثقة الراسخة التي كان يوليها للأميرة إلى أشلاء .
أغمض الفيكونت عينيه، و سقطت الدموع ببطء من زاوية عينيه. رأته زوجته، فاستبدلت غضبها بكلمات معاتبة .
" يا إلهي، لماذا تبكي ؟ لنعد إلى إقطاعية كاتانغا بسرعة."
انتشر صوتها خارج الباب. تنهد الخدم الذين كانوا يقفون في الرواق بقلق في نفس الوقت .
" ماذا حدث ؟ "
" ماذا حدث ؟ الأميرة ألقت برازًا على الفيكونت."
" آشش ! كوني حذرة في كلامك، هذه ليست إقطاعية كاتانغا."
تفاجأ السائق من كلام الخادمة الوقح و نظر حوله، لكن الخادمة لم تهتم و استمرت في التذمر .
" لا، بصراحة، بيننا وبين أنفسنا، كلنا نعلم أن صاحبة السمو الأميرة كانت تتحدث بوقاحة في القصر، مهما حاول الفيكونت تجميل الأمر، فقد كانت صعبة الإرضاء، كم كانت أجواء القصر متوترة طوال تلك الأيام العشرة أو أكثر ؟ "
" هذا صحيح، لكن …… ! "
" مهما كان الطعام مخصصًا لصاحبة السمو الأميرة، فكيف يمكن لـكاتانغا توفير تلك المكونات الثمينة ؟ وماذا عن التنظيف ؟ ألا تتذكر كيف عاملت الخادمات النبيلات سيدتنا، وهنّ يدّعين أنهن نبيلات ؟ "
لم يكن هناك مجال لعدم التذكر .
" هل هذه هي الطريقة التي تنظفون بها في إقطاعية الفيكونت ؟ "
" الطعام فظيع، إنه طعام لصاحبة السمو، كان يجب أن يولوا اهتمامًا أكبر."
ففي رؤوسهم، كانت تترسخ بوضوح نظرات الأميرة الجميلة و الأنيقة التي كانت تنظر إليهما باحتقار، وكلماتها اللاذعة التي كانت تقولها بصوت راقي، مما جعل الفيكونت و زوجته لا يعرفان ماذا يفعلان .
" لم أستطع حتى أن أتحدث في القصر، لذلك، في كل مرة ذهبت فيها للتسوق، تحدثت عنها و شعرت ببعض الراحة."
" أرغب في سماع المزيد عن ذلك."
تداخل صوت منخفض فجأة. تجمد الخدم الذين كانوا يتحدثون عن الأميرة بحرية وكأنهم رأوا شبحًا. حتى الخادمة التي كانت تتفاخر و تتحدث بوقاحة بدافع الغضب في تلك اللحظة، شعرت بالخوف الشديد و انحنت بسرعة.
قالت بصوت مرتجف وكأنها تبرر : " يا سيدي، لقد كنت أثرثر فقط، أرجوك سامحني مرة واحدة فقط."
" أنا لا ألومك، بل أرغب في سماع الحقائق."
أغمضت الخادمة عينيها بإحكام ثم فتحتهما ببطء، ثم رفعت رأسها نحو النبيل الذي ظهر فجأة، وكأنها تنظر إليه بخجل .
" يبدو أنكِ تشعرين بالظلم، ويبدو أنني أستطيع تقديم بعض المساعدة."
رجل وسيم ذو شعر فضي بارد . على الرغم من أن خديه كانتا نحيلتين، إلا أنه كان رجلاً ينضح بجو من النبل من أول نظرة .
لم يتحدث الخدم الآخرون و بدأوا في تبادل النظرات، لكن في عيني الخادمة العجوز التي عاشت طويلاً، بدا أن النبيل يقول الحقيقة . فتحت الخادمة المترددة شفتيها أخيرًا .
" هـ، هل يمكنك حقًا أن تساعدني ؟ "
" نعم، إذا أخبرتني أولاً كم من الوقت أقامت صاحبة السمو الأميرة في كاتانغا."
" هذا ليس صعبًا، أتذكر بوضوح متى جاءت ومتى غادرت."
أومأ النبيل ذو الشعر الفضي، جايد مادلين، برأسه إجابة على الخادمة .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
في وقت الظهيرة، حيث تتوهج أشعة الشمس .
دخل ليوبارد مكتبه للتو و جلس على الأريكة، ثم فك ربطة عنقه التي كانت مربوطة بعناية بيد خشنة .
لقد زال الاختناق قليلاً، لكن مزاجه المتدهور لم يعد كما كان .
خرج زفير حاد من بين شفتيه الملتويتين، وكأنما لا يصدق ما حدث .
قبل قليل، كان أول لقاء مع الوفد فوضى عارمة .
" دولة مهزومة حقيرة."
في النهاية، خرجت كلمات حادة .
نظر الكونت هاجيس حوله دون وعي، ولكن بالطبع، لم يكن في المكتب سوى ولي العهد وهو، و الدوق الشاب مادلين الذي رافقهم بصفته ممثلاً لوزير الخارجية .
عندها فقط، استعاد الكونت هاجيس رباطة جأشه و تفحص ولي العهد. كان من المفهوم إلى حد ما سبب غضبه بهذا الشكل .
استرجع ليوبارد بوضوح ما حدث قبل قليل .
" يا للأسف، تمنيت حضوركم في اليوم الأول من المأدبة."
بعد التحية، لم يقل ليوبارد سوى كلمات رسمية، لكن الإجابة التي تلقاها كانت غريبة بعض الشيء .
"عذرًا، لقد تلقينا اتصالاً مفاجئًا، فاستغرق الأمر بعض الوقت، رغم وصولنا بسرعة "
كانت كلمات وفد هڤرتي كلها على هذا النحو .
" … حجم الوفد ليس كبيرًا."
" عذرًا، يا صاحب السمو، ما زلنا في هڤرتي نركز على إعادة الإعمار بعد الحرب، نرجو تفهمكم للنقص، على الرغم من أننا جمعنا أكبر عدد ممكن لحضور مأدبة الصيف "
بدا الأمر وكأنه احترام، لكنه كان وقحًا، وكان ممزوجًا بشعور غريب بالاستياء، لكن بهذا القدر، حاول ليوبارد أن يتفهم الأمر بتسامح .
كم سيكون مؤلمًا لدولة مهزومة أن تحضر مأدبة دولة منتصرة، لكن المشكلة الحقيقية كانت أن اهتمام الوفد كان منصبًا في مكان آخر تمامًا .
في النهاية، عندما وجه ليوبارد كلمة حادة، انحنى الدوق كيوال، قائد الوفد، وقال : " عذرًا، يا صاحب السمو، ولكن، هل سيأتي الدوق الأكبر ڤيكاندر أيضًا ؟ "
كان يفكر في أن الأمر سيكون مثيرًا للاهتمام إذا حاولوا اغتياله أمامه، ربما يرغبون في رؤية عدوهم الذي تسبب في هزيمة هڤرتي .
" … إنه أمر مؤلم بالنسبة لنا، لكن من حسن حظكم أن لديكم فارسًا رائعًا كهذا."
" … ماذا ؟ "
في تلك اللحظة، لم يصدق ليوبارد أذنيه. هل كان الوفد يشير إلى الدوق الأكبر ؟
" لقد سمعنا الشائعات الآن ونحن في مرحلة إعادة الإعمار، يقال إن الدوق الأكبر ڤيكاندر لم يمس المدنيين أبدًا، باستثناء الفرسان."
" وقد أعاد الأسرى بمعاملة عادلة، في هذا الجانب، كان الأمر جيدًا على الأقل."
لم يرغب في سماع أي شيء عن الجانب الرحيم من الدوق الأكبر الذي لقّب "بالشيطان القاتل".
لم يستطع التحكم في تعابير وجهه، لكنه لم يستطع أن يفسد اللقاء الأول مع الوفد، لذا بالكاد استطاع توديعهم .
زمجر ليوبارد غاضبًا : " هل جميع الدول المهزومة بهذا الغباء و الوقاحة ؟ يحاولون احترام من هزمهم، حسنًا، لهذا السبب هُزموا "
لكن الدوق الشاب مادلين، الذي كان جالسًا أمامه، لم يجب بشيء. كان الأمر محبطًا للغاية. سيطر ليوبارد على عواطفه بصعوبة.
" … سمعت أن الأميرة مادلين لا تزال تقيم في قصر الدوق الأكبر على الرغم من وجودها في العاصمة."
عند هذه الكلمات، رفع الدوق الشاب رأسه . عندما رأى عينيه المرتعشتين، شعر بالارتياح قليلاً . كان من الأفضل لو أنه فهم الأمر قبل أن يضطر هو للتحدث .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
استمر ليوبارد في الكلام بلا مبالاة : " لقد وثقت في الدوق و الدوق الشاب باستمرار فيما يتعلق بأمر أوليڤيا، لكن لا يمكن الاستمرار هكذا، فور انتهاء مأدبة اليوم، سأحضر أوليڤيا إلى جناح ولية العهد في قصر ولي العهد."
" صاحب السمو، إن هذا …… "
ارتعش صوت الدوق الشاب، و هز ليوبارد كتفيه .
" إنها خطيبتي، و سأحضرها مبكرًا قليلاً، هل هذا أمر يدعو للدهشة إلى هذا الحد ؟ "
****************************
نزلي الفصل الله يدخلك الجنه 😔💚
ردحذف