كانت الأختان تواصلان حديثهما الودود والهادئ .
نقلت إيسيلا الشائعات التي سمعتها إلى أوليڤيا، و أوليڤيا بدورها روت بتفصيل ما حدث في القصر الإمبراطوري .
" يا إلهي، الدوق الأكبر السابق لا يزال على قيد الحياة … "
كررت إيسيلا ذلك بعدم تصديق. كانت تبدو مرتبكة من حقيقة أن كل ما كانت تؤمن به من فخر بالإمبراطورية و العائلة المالكة كان وهمًا .
لذلك، حولت أوليڤيا الموضوع وكأنها تريد تبديد الأجواء : " إيسيلا، هل أنتِ بخير ؟ لقد قلتي إن قراءة السجلات كانت صعبة بعض الشيء."
" آه، أنا لا أراجع السجلات بعد الآن، أخي جايد … "
أغلقت إيسيلا فمها بيدها فجأة وهي تتحدث دون وعي. في الوقت نفسه، تدحرجت عيناها بلون الجمشت ذهاباً وإياباً وهي تتفحص أوليڤيا.
على الرغم من رؤيتها لذلك التعبير، لم تستطع أوليڤيا أن تفتح شفتيها بسهولة .
نعم، لو كانت هي نفسها السابقة، لابتسمت ببرود وقالت شيئاً آخر، لكن أوليڤيا صمتت.
كانت تنتظر الكلمات التالية، وهي تدرك أكثر من أي شخص آخر أن هذا الصمت سيُفسَّر كحثٍّ على الكلام. في خضم هذا الجو الغريب، فتحت إيسيلا شفتيها المرتعشتين وأخيراً تكلمت :
" في الواقع … أخي جايد استقال من منصب نائب قائد فرسان القصر الإمبراطوري."
كادت أن تقول بالنفي العفوي أنه من المستحيل أن يحدث ذلك . جايد مادلين الذي عرفته أوليڤيا كان يحلم بأن يكون فارسًا أكثر من أي شخص آخر، وبعد أن أصبح فارساً، كان يتنقل في ساحات القتال كسمكة وجدت الماء .
وبينما كانت أوليڤيا تقضم شفتها، أضافت إيسيلا : " لا أعرف تمامًا لماذا استقال، يقول أخي إنه كان يفكر في الأمر منذ فترة، وأنتِ تعرفين جيداً يا أختي، أخي ليس من النوع الذي يستقيل لمجرد أن يقول له أحدهم أن يفعل ذلك … "
— طرق، طرق .
جاء صوت طرق في الوقت المناسب تمامًا .
ندمت إيسيلا على قرارها عندما أجابت بـ "نعم" مرحبة، فرأت من دخل .
" ألم أُقاطعكم ؟ ظننتُ أن الشاي قد برد، فأحضرتُ شايًا جديدًا."
الدوق الأكبر يدخل حاملاً إبريق شاي كحملٍ مطيع. في اللحظة التي رأت فيها هذا المشهد، كادت إيسيلا أن تنسى كل عبارات الترحيب التي تدربت عليها .
مهما كان الدوق الأكبر جميلاً، إلا أنه كان مصدر خوف لإيسيلا. فما زالت الكلمات التي تركها الدوق الأكبر في أذنيها في ذلك اليوم عالقة ببرود .
لم يكن بوسعها أن تظهر بمظهر غبي أكثر من ذلك. قامت إيسيلا بتقديم انحناءة أنيقة .
كانت تلك هي الكلمات التي تدربت عليها مراراً وتكراراً لإثبات أنها أخت أختها في يوم لقائهما مجدداً .
" إيسيلا مادلين تحيي البطل العظيم سيد إقطاعـ … "
أوه ! تذكرت إيسيلا إحدى الشائعات العديدة التي أحضرتها، وغيَّرت بقية الجملة .
" … حاكم مملكة ڤيكاندر."
الشائعات التي انتشرت في العاصمة. دوقية "ڤيكاندر" أعلنت استقلالها . لم يتم تحديد حجم تلك الدولة، لكنها لم تعد عائلة دوقية تابعة للإمبراطورية. وكان خيار إيسيلا صائبًا .
عيناه الحمراوان اللتان كانتا بلا مبالاة وكأنهما تختبرانها، لمعتا للحظة. كان ذلك بالتأكيد فضولاً، لكن سرعان ما اتجهت نظرة إدوين نحو أوليڤيا. نظرته الدافئة واللطيفة كالنسيم الربيعي جعلت إيسيلا ترتجف أكثر وشَدَّت جسدها .
" عن ماذا كنتم تتحدثون ؟ "
" … قصة مدهشة للغاية، قصة لا تُصدق عن اللورد جايد مادلين الذي قدم استقالته."
ربما في تلك اللحظة، تمنت أوليڤيا أن ينفي إدوين كلامها .
أرادت أن يكون مادلين مثل ولي العهد، الذي لم يتغير قيد أنملة، بحيث يسهل تجاهله والتخلص منه، لكن إدوين ابتسم بهدوء و أومأ برأسه.
" لقد أنجزت مُبلّغتكِ الممتازة عملاً جيداً."
فحصت عيناه الحمراوان وجه أوليڤيا. كان وجهها متفاجئاً، لكن لون بشرتها لم يكن سيئاً بشكل خاص. ضيَّق إدوين عينيه وألقى خبراً جديداً .
لقد أراد أن تعلمه هي من خلاله، إذا كانت ستعرفه على أي حال .
" إذن، هل نقلت مُبلّغتكِ الممتازة أيضًا هذا الخبر ؟ أن الدوق الشاب مادلين قدم استقالته أيضاً."
" أخي كونراد ؟ "
قفز صوت إيسيلا وكأنها لم تكن تعلم شيئًا على الإطلاق. أومأ إدوين بسهولة، مُخفياً حماسه المنتصر .
" حسناً، من الممكن ألا تعرفي، على أي حال، الليدي لا تزال صغيرة، ومصدري أكثر كفاءة منها."
بدا أن الليدي قد فهمت التلميح الدقيق الذي يشير إلى عدم رضاه بعد، فاحمرّت خَدّتَاها. في هذه الأثناء، فحص إدوين وجه آنسته .
كانت عيناها الخضراوان مليئتين بالحيرة .
يبدو أن آنسته لن تنام الليلة .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
" ألا تستطيعين النوم ؟ "
في غرفة استقبال قصر الدوق الأكبر في جوف الليل العميق .
نظرت أوليڤيا، التي كانت تحدق بلا مبالاة خارج النافذة الزجاجية الممتدة، إلى الخلف بعينين متسعتين .
لم تشعر بأي حركة، ولكن إدوين كان يدخل غرفة الاستقبال دون أن تعرف متى فتح الباب .
" هل كان عليّ أن أحضر بعض الشوكولاتة الدافئة ؟ "
توقف إدوين عن السير بينما كان يتمتم بذلك .
عندما رأت أوليڤيا أنه يبدو وكأنه سيذهب لإحضار بعض الشوكولاتة في أي لحظة، ضحكت ضحكة خفيفة، و نهضت، واقتربت من إدوين، ثم أمسكت بيده الكبيرة و وضعتها على جبهتها. ربما لأن رأسها كان يؤلمها اليوم تحديداً، شعرت بدفء يد إدوين كأنه برودة منعشة .
" أحتاج هذا أكثر من السكر في الوقت الحالي."
أومأ إدوين بعينيه فقط وهو يراقب وجهها المبتسم بصفاء، ثم ابتلع نفساً حاراً في لحظة ما.
" … جئت لأواسيكِ، لكن كدتُ أن أُعبّر عن تذمري."
" ماذا ؟ "
نظرت إليه أوليڤيا بعينين بريئتين لا تدركان شيئاً، وتطلعت إليه . على الرغم من أن إدوين كان يرى بوضوح أن أوليڤيا تعاني من صداع مقلق، كان قلبه يغلي غيرة .
تمنى بشدة أن يمتلئ ذلك الرأس الجميل بالكامل بأفكار عنه فقط، ثم ابتسم سخرية. على أي حال، كان موعد حفل الزفاف، الذي لا تعرفه أوليڤيا، يقترب بسرعة .
ابتسم إدوين بابتسامة رجل نبيل وغطى عينيه الغائرتين، ثم سأل بلطف : " لا شيء، كنت أتساءل فقط، من هو ذلك الشخص الذي سرق نوم آنستي في الليل وجعلها تفكر به ؟ هل هو اللورد مادلين ؟ أم الدوق الشاب مادلين ؟ "
على أية حال، لا يمكن إخفاء شيء عن رجل ذكي وفطِن .
تنهدت أوليڤيا وكتفت كتفيها : " … كلاهما ؟ "
نفخ إدوين شفتيه كإظهار لعدم رضاه. تجاهلت أوليڤيا ذلك وحولت بصرها إلى النافذة الزجاجية الممتدة.
ظهر القمر البارد فوق انعكاس وجه إدوين في النافذة .
كان قمراً مكتملاً بالصدفة. وبينما كانت تحدق في ذلك الضوء الفضي الساطع، فتحت أوليڤيا شفتيها كما لو كانت مسحورة بسحر ضوء القمر .
" قد لا تعلم، لكن عائلة الدوق مادلين … مخلصة للغاية."
" ما مدى إخلاصهم، لدرجة أنه أحضر طفلة غير شرعية أراد إخفاءها طوال حياته ؟ "
في الماضي البعيد، كانت هذه السخرية تخترق قلبها، لكن أوليڤيا الحالية كانت تتفق معها إلى حد كبير .
" … لذلك، من المستحيل حقًا أن يقدم أحد أبناء تلك العائلة المخلصة استقالته من القصر الإمبراطوري."
نعم، لهذا السبب … لهذا السبب كان قلبها يضطرب هكذا، لأن عائلة الدوق مادلين لم تعد تتصرف كعائلة مادلين .
كانت تتمنى لو أنهم لم يتغيروا أبداً، تماماً مثل ولي العهد، لكن مادلين كان يتغير باستمرار بطريقة غريبة، بطريقة لا يمكن لـ أوليڤيا أن تتخيلها، وبطريقة هي الأكثر إزعاجاً .
بينما كان إدوين يستمع إلى صوت أوليڤيا المنخفض، تذكر يورجن الذي زار قصر الدوق الأكبر سراً .
" الشائعات تنتشر بثبات، لكن يا صاحب السمو، هناك شيء غريب مختلط بين الشائعات، شائعة لا معنى لها تفيد بأن عائلة الدوق مادلين انضمت إلى ڤيكاندر، ويبدو أن من نشر الشائعة هو أحد أبناء الدوق مادلين."
ماذا يفعل ؟
نظر إدوين إلى أوليڤيا للحظة. مهما فكر في هذا الوضع، كان هناك شيء واحد فقط يمكن لإدوين قوله .
" … على الرغم من استقالته، فمن المحتمل أن يحضر كلاهما مفاوضات الغد."
كان ذلك هو المكان الذي سيُقرر فيه مستقبل الإمبراطورية غير المستقر . ومكان لا يمكن لعائلة الدوق مادلين، عماد الإمبراطورية، أن تغيب عنه.
وأثناء حديثه عن هذا المكان، رفع إدوين زاوية فمه بابتسامة ساحرة .
" لذا، لنذهب معًا، ولنسأل اللورد مادلين مباشرة."
" …… "
" أو يمكننا أن نسأل الدوق الشاب."
" … هذا مفاجئ، كنت أعتقد أنك ستقول ألا أفكر أكثر."
تمتمت أوليڤيا وكأنها تكتشف شيئًا جديداً.
" على أي حال، ستفكرين حتى لو قلت لكِ ألا تفعلي."
بدا وكأنها وُضعت في موضع حرج، فابتسمت أوليڤيا بارتباك. بينما كان يتبع نظرتها الهاربة حتى النهاية، ابتسم إدوين بعمق .
مهما فعل، لن يستطيع إدوين أن يهزم أوليڤيا … إذاً، يجب تغيير الطريقة . بحيث ينتهي التفكير تمامًا لدرجة لا تسمح بمزيد من التفكير. متمنياً أن يمتلئ ذلك الرأس الجميل به وحده تمامًا .
رفعت أوليڤيا رأسها ببطء، وكأنها تتبع النظرة التي لا مفر منها دون وعي منها .
في اللحظة التي تشابكت فيها النظرات في الفضاء، ارتفعت زاوية شفتيه المرسومتين بارتياح مرضي .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
في نفس الوقت، في القصر الإمبراطوري .
" في هذه اللحظة العصيبة، يختفي ركنا الإمبراطورية فجأة، هل هؤلاء في كامل وعيهم ؟ "
نظر الإمبراطور إلى رئيس الخدم بتعجب لا يصدق .
لم يستطع رئيس الخدم أن يرفع رأسه أمام الحقيقة المروعة. كان من البديهي أن ڤيكاندر البرابرة سيقتحمون القصر الإمبراطوري بمجرد انقضاء الفجر .
لكن، كيف يمكن تبرير عدم مجيء الدوق مادلين و الدوق إلكين أمام الإمبراطور ؟
ومع ذلك، لم تنتهي الأخبار التي أثارت غضب الإمبراطور عند هذا الحد .
" وهذا لا يكفي، بل إن ابني مادلين قدما استقالتهما ؟ "
أغمض رئيس الخدم عينيه بشدة أمام صوت الإمبراطور الذي كان يرتجف : " … نعتذر بشدة، يا صاحب الجلالة."
ترنح الإمبراطور ثم انهار جالسًا على العرش. فقدت ساقاه كل قوته. شعر وكأن "فرانز" الصلبة التي كان يقف عليها قد تبددت كقلعة رملية جرفتها الأمواج .
" كنت أثق بهم، وأسميهم أعمدة الإمبراطورية، وهم الذين أرادوا أن يخونوا فرانز."
ملأ صوته المكان. انتشر طعم الدماء الذي كان يعض عليه أسنانه في فمه، لكن الإمبراطور كان عليه أن يستعيد وعيه . كل ما ذكره الدوق الأكبر كان في غير مصلحته . بدءاً من السنوات العشر التي فقد فيها الدوق الأكبر السابق، وصولاً إلى مملكة "لوڤيل" المدمرة .
" … يا رئيس الخدم."
" نعم، يا صاحب الجلالة."
" اذهب إلى الإمبراطورة فوراً و أمرها بتحديد مكان الدوق إلكين و إحضاره إليّ، أما الدوق مادلين … "
لماذا يفعل ذلك وهو من أنصار الإمبراطور ؟
في لحظة الارتباك، أشرق الإمبراطور ببريق في عينيه.
" الطفلة غير الشرعية، تلك الطفلة الوضيعة."
أي شيء يمكن أن يشوه سمعة الدوق الأكبر كان أمرًا جيدًا . وكان أفضل لو أنه بإمكانه إلحاق ضرر بالدوق مادلين المتعجرف والمثير للاشمئزاز الذي خانه .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
مر الوقت بسرعة وحل وقت المساء .
بينما كان نبلاء الإمبراطورية يدخلون القصر بأجواء كئيبة، رمش جايد بعينيه بذهول .
فناء القصر الإمبراطوري .
كانت أوليڤيا أمامه بوضوح، أوليڤيا التي كانت تقف دون أي إصابة .
" مرحبًا بك أيها اللورد، هل لديك دقيقة من وقتك ؟ "
عندما اقترب ديان سيزيلين، الذي نقل له أخبار أوليڤيا عندما كان في كاتانغا، لم يتخيل أبدًا أن أوليڤيا ستكون في انتظاره .
" استعرت وقتًا منك للحظات، لديّ شيء أتساءل عنه، أيها اللورد."
عند سماع نبرة صوتها الحادة و المُحدَّدة كالسيف، شعر بنوع من الواقعية بشكل غريب .
رفع جايد زاوية فمه بجهد وقال : " ما هو، يا آنسة ؟ "
كاد جايد أن يتحدث بغير رسمية كعادته، لكنه صحح نهاية الجملة .
كانت تُنادى بـ "آنسة" لا "الأميرة مادلين". اللقب الذي كانت أوليڤيا ترغب أن تُنادى به كان بعيداً جداً، وكان هذا مؤلماً بقدر بعده .
" … سمعت أنك استقلت من منصب نائب قائد الفرسان، لماذا فعلت ذلك ؟ "
عندما سُئل، هزّ جايد كتفيه ونظر إلى مكان بعيد .
" لأنه لم يعد هناك ما يثير غضبي."
يا ليتني عرفتُ ذلك في وقت أبكر ……
الكلمات التي ذابت على طرف لسانه كان طعمها مر .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
****************************