ابتلعت أوليڤيا ريقها .
لم تفكر أبدًا بهذه الطريقة. كان إدوين دائمًا بالنسبة لها كـحصن، شخص يمنحها ثقة راسخة، ولم يكن لديها نية سوى أن تحاول هي أيضًا أن تحميه .
لكن قبل أن تتمكن من النفي، كان صوت تنهيدة إدوين على أذنها ثقيلاً . الكلمات التي حُبست بين شفتيها المرتعشتين تشتتت كأنها همس مبحوح .
كان الهواء المحتبس داخل حلقها باردًا، وكأن البرد يلف جسدها بالكامل. وكأن الدفء الوحيد المتبقي لها هو الحنان الذي ينتشر عبر كتف إدوين المائل عليها .
لذلك، لم يكن بوسع أوليڤيا أن تقول سوى : " … اعتقدت أنه مسؤوليتي، لأن احتجاز ولي العهد للفارسين كان بسببي في النهاية."
كانت هذه هي الكلمة التي ظلت تتردد في فمها، كأنها عذر، كلما حدث شيء سيئ .
وسط دقات قلبها العنيفة، سمعت كلمات إدوين الواضحة الخالية من أي انفعال : " إذا رضختِ للشخص الذي يبتزك بهذه الطريقة ليجلبك إلى القصر الإمبراطوري، ألم تفكري للحظة أنكِ ستكونين في خطر ؟ "
" كنت … سأكون بخير."
" هل تعتقدين ذلك حقًا ؟ "
اختفى الدفء الذي كان يلامس كتفها .
اهتزت عينا أوليڤيا الخضراوان كأنهما مرتاعتان. و حركت يدها في الهواء عدة مرات محاولة الإمساك بإدوين، لكن إدوين لم يمسك بيدها كعادته .
بدلاً من ذلك، تراجع خطوتين ونظر إلى أوليڤيا بجمود . عيناه الحمراوان، الخاليتان من نظرة الحنان المعتادة، كانتا باردتين بشكل مفاجئ، فشعرت أوليڤيا أن قلبها هوى للأسفل .
" حتى في اليوم الذي كان هناك كدمة على معصمك."
لكن عندما خفضت أوليڤيا رأسها لتتجنب الكلمات التي كان يهمس بها، لم يكن أمامها خيار سوى أن تعض على شفتها .
" وحتى في اليوم الذي سقطتِ … سقطتِ فيه في وادي سينوا."
كانت قبضة إدوين الكبيرة ترتجف بخفة . استمرت الكلمات التي توقفت لبرهة ببطء : " في ذلك اليوم أيضًا، قلتِ يا أوليڤيا إنكِ بخير."
في تلك اللحظة، تذكرت أوليڤيا يد إدوين المرتعشة التي احتضنتها في ذلك اليوم .
" لذلك، وبناءً على ما طلبتِ مني أن أصدقه، صدقتك حتى الآن."
وكذلك إدوين الذي كان عابسًا و حذَّرها عندما طلبت منه أن يثق بها في القصر الإمبراطوري .
" لكنك في النهاية تعرضتِ للخطر، دون علمي حقًا."
وكذلك نظرته الحالية و عيناه الحمراوان.
" … ربما، هناك مخاطر أخرى لم أكن أعلم بها ولا أزال أجهلها."
كانت أسئلة حادة كالخناجر .
عندما أدركت أوليڤيا أن كل هذا ينتهي بـقلق على سلامتها و خيبة أمل في نفسه، كان عليها أن تبتلع البكاء الذي اعتصرها .
كان حكمها خاطئًا. لطالما طلبت من إدوين أن يعتمد عليها، لكنها في الواقع، خانت ثقته بحجة حمايته .
شدت أوليڤيا قبضتها و أجهدت عينيها . أصبحت رؤيتها ضبابية بالدموع، لكنها ضغطت بقوة .
مسح إدوين وجهه بيده. أمام وجهه الشاحب الذي يبرز في ظلام المنجم، ابتلعت أوليڤيا الكلمات الحارة في داخلها .
" … أنا أدعمك دائمًا، لكن هذا الدعم مشروط بسلامتك."
" … لن أفعل ذلك مجددًا، أعدك أنني لن أذهب إلى أي مكان مرة أخرى دون إخبارك."
كان صوتها الذي تردد في نفق المنجم واهيًا . وكانت كتفاها تهتزان باستمرار .
في اللحظة التي رأى فيها إدوين قبضتها المشدودة بشدة التي تكبح البكاء، و شفتيها الحمراوين من العضّ، تنهد وهمس وهو يحتضن أوليڤيا : " انظري، كيف يمكنني أن أتحدث عندما أشعر بالأسف عليكِ هكذا."
كان الجسد بين ذراعيه صغيرًا للغاية. ربت إدوين ببطء على ظهرها الصغير .
كانت آنسته العنيدة تردد كالـببغاء كلمات ممزوجة بالبكاء تقول "لقد أخطأتُ في التفكير"، و "لن أفعل ذلك مرة أخرى".
وبينما كان إدوين يستمع إلى هذه الكلمات، رفع زاوية فمه ببطء .
كاذبة .
لم يستطع إدوين أن يصدق الكلمات التي انتشرت على صدره من أوليڤيا.
كانت بارعة في قول "لقد أخطأتُ في التفكير"، لكنها لم تكن تعرف حقًا ما هو الخطأ . كانت تقول إنها لن تقوم بأي عمل خطير، ومع ذلك، إذا تعرض أحد شعبها للخطر، كانت أول من يندفع إلى قلب الخطر .
معيارها للحكم على سلامتها و خطورتها كان مختلفًا. مثل العديد من الفرسان الذين أصبحت حساسية الخطر لديهم خاملة بعد قضاء سنوات طويلة في الحرب .
كان يعلم البيئة التي نشأت فيها أوليڤيا، وكان يخمن تقريبًا كيف عاشت. كان يتفهم إلى حد ما أنه لا يمكنه تغييرها بين عشية وضحاها، بعد أن عاشت حياتها بأكملها بمفردها، لكن هناك فرق بين التفهم وبين أن يرى بنفسه كيف تلقي بنفسها في الخطر كفراشة النار .
" … مهما كانت النية وراء تصرفاتك، لم يعد بإمكاني أن أكتفي بالمراقبة بعد الآن."
عند كلمات إدوين، أومأت أوليڤيا رأسها و عانقته بشدة. تنهد إدوين بأسف عندما شعر بقوة قبضتها الصغيرة التي تتمسك به وكأنها لن تتركه أبدًا .
' أتمنى لو كانت أقل شجاعة قليلاً … أقل تألقًا قليلاً … '
لكنه كان يعلم أنه إذا كان الأمر أقل من ذلك، فلن تكون أوليڤيا، فتنهد بخفة ورتَّب أفكاره .
كيف يمكنه منعها من الاندفاع حتى لو واجهت وضعًا خطيرًا ؟
وفي اللحظة التي التقت عيناه ببيثاني التي كانت تقف قريبة وهي قلقة، لمعت عيناه الحمراوان وكأنه اكتشف إدراكًا جديدًا .
إذا لم تستطع أوليڤيا أن تتغير في وقت قصير، وإذا لم يستطع إدوين أن يمنعها .
… إذًا، عليه أن يقضي على الوضع الخطير نفسه. كما أتمت ڤيكاندر استعداداتها الكاملة.
" … لقد أخطأت في التفكير أنا أيضًا."
" ماذا ؟ "
سألت أوليڤيا متفاجئة من همسه الرتيب. نظر إدوين إلى وجهها الصغير الذي كبح دموعه، و تنهد بخفة، ثم مسح على زوايا عينيها بيد حذرة، كأنه يلمس قطعة زجاجية منحوتة، وقال :
" على أي حال، لن يكون هناك المزيد من المواقف الخطيرة."
" … إدوين ؟ "
" أوليڤيا، سأذهب إلى القصر الإمبراطوري قريبًا، مع فرسان ڤيكاندر."
ارتجفت زاوية عين أوليڤيا. يبدو أنها فهمت على الفور معنى كلماته. كان إعلانًا بأنه قد يُراق دماء .
" سأنقذ فرسان ڤيكاندر و المخبر، و سأقلب العلاقة مع القصر الإمبراطوري بشكل حاسم، حتى لا يتمكنوا أبدًا … من إلحاق أي ضرر بسلامنا."
لم يكن في صوت إدوين أي اهتزاز، وكأنه يقرأ مستقبلاً محتومًا. والآن، لن تقوم أوليڤيا بالتضحية بنفسها لتجنب موقف إراقة الدماء .
" … يا للراحة."
مال إدوين برأسه في حيرة، لأن الإجابة كانت غير متوقعة .
" لأنني … رميت منديلاً في وجه ولي العهد بنفسي."
" أنتِ، يا أوليڤيا ؟ "
" بالطبع، نصف السبب كان بفضل إرادة الدوقة الكبرى الراحلة."
رمش إدوين بعينيه عندما مال برأسه بعدم تصديق . ملأت أطراف شفتيه المرتجفة توقعات خافتة ممزوجة بقلق مشوش بأنه "لا يمكن أن يكون الأمر كذلك".
" … يا أوليڤيا، كيف وصلتِ إلى هنا ؟ يا بيثاني، هل من المحتمل أنكِ استخدمت قوتك بشكل مفرط ؟ "
هزت بيثاني رأسها بهدوء، ثم قالت بأكثر صوت هادئ ممكن : " الدوقة الكبرى الراحلة هي من أرسلتنا إلى هذا المنجم."
" هذا مستحيل، والدتي … "
" … في أعمق غرفة نوم في القصر الإمبراطوري، كانت هناك صورة للدوقة الكبرى الراحلة، وقد وُضع عليها سحر حفظ."
تلاشت التعابير فجأة عن وجه إدوين الذي كان مليئًا بالارتباك. نظر بوجه لا يصدق ببطء إلى بيثاني، ثم إلى أوليڤيا.
هذا مستحيل … هل من الممكن …؟
نظر إلى الوجوه التي تمنى أن تنفي، لكن صمتها أكد صحة ظنونه. أدرك إدوين بوضوح نية الإمبراطور التي كان يخمنها منذ فترة .
في النهاية، كل ما جعل طفولته صعبة، وكل ما جعل والده يُعتبر ميتًا لعشر سنوات. وحقيقة أن والدته ذهبت إلى القصر الإمبراطوري لتمثيل ڤيكاندر … كل هذا كان بسبب ……
"هاه" … تسربت تنهيدة فارغة من بين شفتيه الشاحبتين. أمام وجهه الخالي و المُحطم الذي لا يمكن التعبير عنه بأي كلمة، أمسكت أوليڤيا بيد إدوين بإحكام .
لف الهواء الذي دخل عبر مدخل المنجم النفق بصوت حزين. وفي نهاية ذلك الصوت، تابعت أوليڤيا بهدوء :
" من تلك الصورة، سمعت أمنية تركتها الدوقة الكبرى الراحلة، كانت تتمنى …… "
شعرت بنظرته تنظر إليها مباشرة. واجهت أوليڤيا تلك النظرة، و كررت قدر الإمكان الكلمات التي قالتها الدوقة الكبرى : " أن يصبح إدوين، سليل لوڤيل و ڤيكاندر، قويًا بما يكفي لاستعادة هذا المنجم، وأن يعيش سعيدًا … و محبوبًا للأبد."
مدت أوليڤيا يدها نحو إدوين . تحدثت بصدق، متمنية أن ينتقل إليه شعور حنون بنفس دفء الدفء الذي وصل إليها :
" … لقد تمنت ذلك من كل قلبها."
امتلأت عينا إدوين بالدموع. ابتسمت أوليڤيا وهي تقف أمامه، تنظر إلى الحجر السحري الملفوف حول يده .
" لذلك، وبناءً على ذلك الإخلاص، سأحاول أن أكتشف سر هذا المنجم، متمنية سعادة إدوين الأبدية."
" آنـ، آنستي ؟ هل من المحتمل …! "
نادَت بيثاني، التي كانت تحبس أنفاسها، أوليڤيا كـصرخة. أومأت أوليڤيا برأسها وكأن بيثاني قد خمنت الأمر للتو، ونظرت إلى كل من بيثاني و إدوين.
" نعم، الدوقة الكبرى الراحلة أرَتْني للحظة الطريقة التي يمكنني بها فك سر هذا المنجم."
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
في صمت المنجم المطبق، بدأت أوليڤيا تدندن لحنًا منخفضًا . كان لحن الدوقة الكبرى يبدو مألوفًا لسبب ما.
فالنغمات التي انبعثت من صوتها كانت هي ذاتها الأغنية التي غنتها لها والدتها في زمن بعيد .
انتشر صوتها الرقيق كأنه همس في نفق المنجم .
وفي لحظة ما، اتسعت عينا إدوين الذي كان يميل رأسه متأثرًا باللحن المألوف .
هذه الأغنية التي تغنيها أوليڤيا كانت نفس الأغنية التي اعتادت والدته أن تغنيها له في طفولته .
في اللحظة التي أدرك فيها ذلك، بدأ الحجر السحري في القلادة الملفوفة حول يدي إدوين و أوليڤيا يشع بـضوء أخضر متلألئ.
دفء حنون كنسيم عليل، و رائحة عشب و زهور منعشة وحلوة، كأنها رائحة وادي سينوا.
ضغط إدوين على أسنانه أمام هذه الطاقة التي اجتاحت حواسه الخمس في لحظة. على عكس أوليڤيا التي بدت هادئة، شعر هو بإحساس كهربائي يملأ جسده بالكامل عبر أطراف أصابعهما المتشابكة .
عندما وصلت إليه تلك القوة الغامضة التي كادت أن تقطع أنفاسه، أدرك إدوين أنه يسمع صوتًا يصبح أكثر وضوحًا تدريجيًا في نهاية ذلك النسيم الحلو .
" … ستكون بالتأكيد سعيدًا، كما تمنيت بشدة."
اختفى الصوت الذي كان يحمل ضحكة مبهجة كالسحر. رمش إدوين وهو يحدق في الطريق الذي اختفى منه الصوت .
امتلأ المنجم الرطب و المظلم بضوء الحجر السحري. وكلما تَلألأ الحجر السحري، زادت جدران المنجم في التلألؤ كما لو كانت تتجاوب معه.
اختفت صخور النفق وكأنها تنسلخ مثل كائن حي. وعندما بدأت الأسرار الخفية تتكشف، أنهت أوليڤيا صلاتها وفتحت عينيها .
كانت الأضواء ساطعة في كل اتجاه. امتلأ المكان من الأرض إلى السقف بـأحجار كريمة شفافة تحمل اللون الأخضر .
رمش كل من أوليڤيا و إدوين أمام هذا المشهد الذي لم يروه من قبل . كانت تلك الأحجار الكريمة، التي تمنح قوة غريبة ونقية بمجرد النظر إليها، مهيبة لدرجة لا يمكن التعبير عنها.
في غضون ذلك، بيثاني، التي كانت تلهث وهي تشاهد كل هذا المشهد، أشارت إلى أحد الجدران بطرف إصبعها، ثم أطلقت صوتاً مكتوماً أشبه بـ"آه". قفز سحر متلألئ كالبرق تلقائيًا منها .
كانت هذه هي المرة الأولى التي تشعر فيها بيثاني بأن قوتها السحرية ممتلئة بهذا الشكل منذ طفولتها .
لم يكن هناك سوى تفسير واحد : " مـ، ماهذا …! "
إنه الحجر السحري، سر لوڤيل المخفي تحت واجهة منجم الكريستال الأبيض القاحل .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
في فجر مُعتم .
توقفت عربة تحمل شعار مادلين على عجل أمام قصر ولي العهد .
" هل كان لولي العهد موعد في هذا الوقت المبكر ؟ "
تساءل الخدم وهم يتذكرون جدول ولي العهد، و اقتربوا من العربة .
" للقاء الدوق … "
عندما فتح الخدم الباب مع التحية المعتادة، اتسعت أعينهم دهشة .
كانت ملابس الدوق مادلين مناسبة لمقابلة ولي العهد، لكن شعره الفضي لم يكن مصففًا بشكل صحيح .
دوق بمثل هذه الحالة من الفوضى … يا له من أمر غريب !
****************************