في الآونة الأخيرة، غمر إدوين حلاوة شعور وكأنه يستعيد طفولته التي سُلبت منه .
دفء و مشاعر استقرار تملأ القلعة، الأب الذي يستلقي في غرفته المفضلة، وأيضًا ……
" سمو الدوق الأكبر، لقد وصلت الرسالة كالعادة ! "
رسائل أوليڤيا التي تصل في مواعيد تثير الشوق . كل هذه الأمور كانت تبعث على الراحة و البهجة، وتمنح عطشًا مقبولاً أشبه بانتظار هدية موعودة و مؤكدة .
لذلك، وفي اللحظة التي رأى فيها إدوين خط اليد على ظرف الرسالة الذي تسلّمه لتوه، شعر وكأنه يهوي إلى الواقع. واقع سعيد و هادئ، لكن لم تُحل فيه أي مشكلة بعد .
" ما الأمر يا سمو الدوق الأكبر ؟ لقد كنت تنتظرها طوال اليوم أيضًا … "
توقف بروك، الذي كان يبتسم بمرح، عن الكلام عندما سمع صوت تمزُّق ظرف الرسالة. وكذلك فعل جيرون و الطبيب اللذان كانا يراقبان صحة الدوق الأكبر السابق .
لم يقم الدوق الأكبر أبدًا بتمزيق ظرف الآنسة البنفسجي بتلك الطريقة. وبينما كان بروك يراقب بترقُّب، سارع الدوق الأكبر إلى فتح الرسالة و قراءتها، ثم، كما يفعل دائمًا، طوى الرسالة بعناية وتمتم :
" … استعدوا للمغادرة إلى تريستان فورًا، و أحضروا موصل الرسائل الذي أوصل هذه الرسالة، و تأكدوا مما إذا كانت هناك أي شائعات غريبة في أثناء مجيئه من تريستان إلى هنا."
" ماذا ؟ هل حدث أي مكروه للآنسة ؟ "
" الرسالة بخط ليڤ، ولكن الظرف ليس بخط يدها."
" بالتأكيد، لقد حفظت خط يد ليڤ."
تذكر بروك فجأة كلمات الدوق الأكبر سابقًا و اندفع بسرعة إلى الخارج. وبينما فُتح الباب و أُغلق، قبض إدوين قبضته على الظرف الممزق بعينين غارقتين في القلق .
لم يكن في محتوى الرسالة أي شيء مريب . الشيء الوحيد المختلف كان خط اليد على الظرف. لم يستطع إدوين أن يفكر سوى في ثلاثة احتمالات لكتابة شخص آخر غير أوليڤيا على الظرف :
إما أن أوليڤيا مشغولة جدًا في تريستان فطلبت من شخص آخر الكتابة بدلاً منها، أو أن شخصًا ما فتح الظرف وتم استبداله بظرف مكتوب بخط مختلف نظرًا لأنه يسلم عن طريق موصل رسائل، أو الاحتمال الأسوأ ……
… أن يكون قد حدث لأوليڤيا مكروه، ولم تتمكن من الكتابة بنفسها .
تسربت طاقة حادة إلى الهواء الدافئ. نهض إدوين، مذعورًا، و استعاد رباطة جأشه بسرعة وسار نحو والده .
أخذ إدوين يمعن النظر في وجه والده : تنفسه المنتظم و وجهه الهادئ، يده النحيلة لكن القوية التي تزداد قوة يومًا بعد يوم، وقلادة الحجر السحري الملفوفة حول تلك اليد .
في غمرة فرحة عودة والده الذي ظن أنه فُقد ومات دون العثور على جثته، نسي إدوين للحظة أن ……
… القوة العظمى التي بناها يجب أن تستمر دائمًا للحفاظ على هذا الهدوء و السعادة .
مع هذا الإدراك، فُتح الباب بعنف . بروك، الذي كان دائمًا حريصًا على عدم السماح بدخول الضوء حفاظًا على صحة الدوق الأكبر السابق، ارتجفت شفتاه وأغلق الباب خلفه، ثم تفجّر غضبه :
" لقد تم احتجاز اللورد كالتر و اللورد إنترفيلد في القصر الإمبراطوري ! "
" … ماذا ؟ "
" يبدو أن الخبر وصل إلى إقليم ڤيكاندر الآن فقط، لأنه انتشر سرًا وسط صمت العاصمة ! وبما أنه لم نسمع الخبر حتى من سوبيل رغم مرور عدة أيام، فمن المؤكد أن شيئًا ما، كالحبس، قد حدث أيضًا في قصر الدوق الأكبر بالعاصمة ! "
يا إلهي، الاحتجاز ؟! وكلاء ڤيكاندر الذين بقوا لإتمام تعديل ضريبة المعادن …؟!
شعر بروك بلحيته ترتعش من الغضب، منتظرًا كلمة الدوق الأكبر . كانت تلك اللحظة التي بدأ فيها الهدوء المكبوت يزداد حدة وقسوة حتى كاد يطغى على الأجواء حولهم .
" …… "
فجأة، أدار الدوق الأكبر رأسه نحو النافذة الزجاجية الكبيرة. وبعد ثوانٍ قليلة، نظر بروك أيضًا إلى ما وراء النافذة عندما شعر بـقوة انفجار قوية من بعيد .
" هذه … بالتأكيد … سمو الأميرة ؟ "
ارتفع صوت جيرون. كانت هالة من الضوء الأخضر دخلت عبر النافذة المفتوحة جزئيًا. كانت تمامًا مثل الهالة التي رآها في المرة السابقة عندما صلّت أوليڤيا .
بينما صمت الجميع من الذهول أمام هذه القوة التي لا تقل إبهارًا في المرة الثانية، امتزجت هالة الضوء مع الرياح المنعشة و اقتربت ببطء من إدوين .
هواء منعش يلامس وجنتيه، و شعور مألوف و دافئ و حنون يغلفه. كان هذا الشعور مختلفًا قليلاً عما شعر به من أوليڤيا.
بدا وكأنه … والدته في طفولته !
وبينما اتسعت عينا إدوين، تحركت هالة الضوء بخفة، وكأنها تداعبه بنقرة على خده، قبل أن تنتقل من إدوين إلى الدوق الأكبر السابق .
احتضنت الريح الدوق الأكبر السابق المستلقي مرة أخرى، ثم تكررت عملية التشتت و التجمع وكأنها تؤدي رقصتها الأخيرة، قبل أن تذوب وتختفي فوق وجهه .
ارتعش الوجه الذي تسرب إليه الضوء المتلألئ، ثم بدأت جفون الدوق الأكبر السابق ترتفع ببطء .
" أ … أبي ؟ "
اقترب إدوين من السرير ونادى والده. رمش عدة مرات، ثم بدأت دموع شفافة تتجمع ببطء فوق عينيه الحمراوين، اللتين تشبهان عيني إدوين تمامًا .
شد إدوين على يد والده وسأله مجددًا : " أبي، هل استعدت وعيك ؟ "
" … اذهب إلى المنجم، يا إدوين."
" ماذا تعني …… ؟! "
" … زوجتي … "
ارتجف الصوت العميق المنخفض. وفي الوقت ذاته، هوى قلب إدوين. بدا أن والده يشعر بنفس الشيء الذي شعر به هو للتو .
كان من المؤكد أن ذلك الضوء كان رسالة الوداع الأخيرة من والدته .
بألم غامر، لم يستطع إدوين النطق بكلمة، و اكتفى بالإمساك بيد والده. قدمت يد والده، التي كانت القوة تعود إليها تدريجيًا، قلادة الحجر السحري إلى إدوين، ثم، حاول أن يبتسم بجهد، و ضيَّق زاوية عينيه ليختم كلمته الأخيرة :
" زوجتي، لقد حمَت تلك الفتاة."
انزلقت دمعة على جانب العين و سقطت على الصدغ. هبت ريح منعشة في الغرفة و اختفت بالكامل، وكأنها تواسي قطرة الدمع التي تركت علامة مستديرة على غطاء الوسادة .
كانت رسالة سلام و وداع عاجلة وصلته بعد طول انتظار .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
بمجرد مغادرة الغرفة، قال الدوق الأكبر : " سأذهب إلى منجم الكريستال الأبيض."
أجاب بروك بإخلاص و وفاء، مطأطئًا رأسه : " سأتبعك يا سمو الدوق الأكبر، سأجهز على الفور … "
" لا، أنت يا بروك، هيئ القلعة لحالة الاستعداد للحرب."
" …… "
شعر بروك بقشعريرة في عموده الفقري . للحظة، لم يستطع التفكير حتى في التحرك .
الاستعداد للحرب … نظر إدوين إلى بروك المتصلب، الذي لم يستطع حتى رفع رأسه، وتابع بصوت خفيض : " سنغير الخطة، لن ننتظر حتى يحل الشتاء، سننهي الأمر الآن."
" …… "
" لذا، اجمع كل القوات التي كانت تقوم بعمليات استطلاع حاليًا، والتي كان من المقرر أن تبدأ في القتال عند انتهاء استخراج المعادن، جهزوا العدة للانطلاق في غضون ثلاث ساعات من الآن."
" سـ … سأمتثل للأمر يا سمو الدوق الأكبر."
شدّ بروك على أسنانه و نظر في عيني الدوق الأكبر. عينان غارقتان في قسوة مطلقة، تشتعل داخلهما نار غضب حمراء . أدرك بروك بوضوح ما تعنيه هاتان العينان .
لقد وصل اليوم الذي يتمناه الجميع في ڤيكاندر، اليوم الذي آمنوا بأنه سيأتي يومًا ما منذ أن أقسموا بالولاء لڤيكاندر .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
بدأت ڤيكاندر، التي لُقِّبت بالحصن الذي لا يخرج أبدًا، استعداداتها للهجوم .
تاركًا خلفه قلعة ڤيكاندر التي تتصاعد حدتها كل ثانية، اندفع إدوين بفرسه بأقصى سرعة، حتى كاد أن ينقطع نفسه .
بينما كانت القلادة على عنقه تُصدر صوتًا، و الظرف الممزق بين يديه يتطاير منه بعض الأجزاء، لم يكن في ذهن إدوين سوى فكرة واحدة : الذهاب إلى المنجم. علاوة على ذلك، أن والدته حمت أوليڤيا.
حديث والده كان يعني أن أوليڤيا في خطر، لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحًا. لم يكن هناك شيء يهدد أوليڤيا في تريستان.
شعور متوتر وبارد ضغط على قلب إدوين بشدة. وفي غضون ذلك، وصل إلى مدخل المنجم . ولأن بيثاني كانت ترافق أوليڤيا، كان المنجم فارغًا .
هل قامت بيثاني بعمل سحر انتقال آني لأوليڤيا ؟
لكن إدوين كان يعلم جيدًا أن قوة بيثاني السحرية تضاءلت تدريجيًا منذ طفولتها، ولم تعد قادرة على فعل ذلك .
أوقف إدوين حصانه و تفحَّص مدخل المنجم على عجل. لم تكن هناك أي عربة قد تكون أوليڤيا قد ركبتها، ولا حصان ديان، في هذا المكان الخالي من أي أثر للحياة .
" أوليڤيا ! "
صرخ إدوين وهو ينظر حوله. كان صوت حفيف الأغصان موحشًا .
دخل إدوين مدخل المنجم وهو ينادي اسم أوليڤيا. تداخلت أصداء صوته مع صوت تقطّر الماء وصوت صدى كعب حذائه على الأرض .
بينما كان يركض بجنون في الطريق المستقيم، توقف إدوين فجأة و رمش بعينيه، ثم أمسك بقلادة الحجر السحري التي كانت تتدلى على عنقه وسحبها .
كان الحجر السحري الذي يلامس قميصه يتلألأ بضوء أخضر. كان هذا التلألؤ يزداد سرعة كلما اتجه إلى عمق المنجم .
هل من المحتمل أن أوليڤيا موجودة في نهاية هذا الوميض … ؟
" … إدوين ؟ "
" سـ، سمو الدوق الأكبر ! "
في اللحظة التي وصل فيها فكره إلى هذا الحد، سمع صوت أوليڤيا و بيثاني من الداخل .
" أوليڤيا ! "
" إدوين ! "
اقترب وميض الضوء الأخضر البعيد بسرعة فائقة من أوليڤيا. عندما رأت أوليڤيا وجه إدوين في الظلام، قبضت على يدها لتكبح دموعها .
اندفع إدوين نحوها، و ألقى نظرة سريعة على وجهها، ثم عانقها فورًا . بيثاني، التي بكت بشدة عندما أدركت أن المكان الذي وصلت إليه هو منجم الكريستال الأبيض في ڤيكاندر، ذرفت الدموع مرة أخرى .
كانت يده التي تربت على ظهرها حنونة للغاية .
' يا إلهي، نحن هنا حقًا، في ڤيكاندر، و منجم الكريستال الأبيض تحديدًا.'
وبينما ذاب جسدها من الشعور بالراحة، عادت أوليڤيا إلى وعيها وهي تفكر في الفرسان الذين تركتهم وراءها .
" متى عدت يا ليڤ ؟ لماذا لم تأتي إلى القلعة، بل إلى هنا … لا، كيف وصلتِ إلى هنا ؟ هل بيثاني هي السبب ؟ "
" أنت كيف وصلت إلى هنا يا إدوين ؟ بل والأكثر من ذلك، أنت تحمل قلادة الحجر السحري أيضًا …! "
لم تستطع أوليڤيا الكلام بشكل صحيح من شدة الانفعال. كيف يمكن أن يكون إدوين هنا بالتحديد، وكأنه توقيت مضبوط، و يحمل قلادة الحجر السحري !
" هل من الممكن أن تكون الدوقة الكبرى الراحلة هي من أمرتك بالمجيء إلى هنا …؟ "
توقفت يد إدوين التي كانت تمسح على خدها بحنان .
" ماذا تقولين يا أوليڤيا ؟ لقد طلب مني والدي أن أذهب … "
انقطع كلام إدوين فجأة. انتظرت أوليڤيا كلمته التالية بلهفة، لكنها أدركت الأمر عندما رأت إلى أين تتجه نظراته الحمراء، فأسدلت الشال عن كتفيها، لكن الأوان قد فات .
" ما قصة هذه الملابس ؟ … وأين ديان ؟ لا بد أنه جاء معك من تريستان."
الفستان و الشال عليهما شعار القصر الإمبراطوري. فارسان من فرسانه تم احتجازهما في القصر الإمبراطوري . وفي الوقت نفسه، آنسته التي لا تتردد في المخاطرة بنفسها .
قبض إدوين على قبضته بشدة مع كل هذه الروابط التي ظهرت أمامه في لحظة . ابتلعت أوليڤيا ريقها و رمشت بعينيها الواسعتين .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
" لا أعلم من أين أبدأ الكلام، ولكن …… "
" كل شيء، من البداية حتى النهاية."
ارتعشت شفتا أوليڤيا عدة مرات عند سماع كلمات إدوين الباردة. عندها فقط بدأت تتحدث ببطء .
" … لم أذهب إلى تريستان، بل ذهبت إلى العاصمة، ذهبت لأنني علمت أن اللورد كالتر و اللورد إنترفيلد محتجزان في سجن القصر الإمبراطوري."
أنزلت أوليڤيا بصرها لا إراديًا . كانت تعلم تمامًا أن إدوين سيشعر بالخيبة، وظلت كتفاها تنكمشان باستمرار .
" عندما أرسل لي ولي العهد الرسالة لأول مرة، اعتقدت أنني إذا ذهبت، يمكنني إنقاذهم دون إراقة دماء."
لم تحاول أن تختلق أي أعذار، مثل أنها كانت تنوي إخباره، أو أنها أرادت الحفاظ على سعادته بلم شمله مع والده بعد طول غياب .
" كان ذهابي إلى تريستان لسببٍ أيضًا، كان المكان مناسبًا لكسب الوقت، وكان من الأماكن القليلة التي يمكنني أن أطلب منها أن تكون في صفي في حال وقوع أي طارئ."
" …… "
" … لكن حكمي كان خاطئًا، لم أتمكن من إنقاذهم، والآن ثلاثة من نواب قادة ڤيكاندر، بالإضافة إلى يورجن المخبر، موجودون في العاصمة."
كان خطأ أوليڤيا بالكامل أنها لم تضع متغير يورجن في حساباتها. كان يجب عليها أن تترك مساحة للمتغيرات في كل شيء .
" أعتذر يا سمو الدوق الأكبر، كان يجب علينا أن نتصرف بشكل أفضل … "
سارعت أوليڤيا بإضافة تفاصيل بعد اعتذار بيثاني : " بيثاني و ديان عارضا ذلك بشدة، لكنني أصررت على الذهاب، قلت لهما إنني سأذهب بمفردي إن لم يأتيا معي، ولهذا، وبخني بشدة اللورد كالتر، وقال إنه لا يجوز لخطيبة الدوق الأكبر أن تعرض نفسها للخطر."
كان الصمت ثقيلاً . نظرت أوليڤيا خلسة إليه، ولكن حتى لو كان إدوين يشعر بخيبة أمل، كان لا يزال لديها ما تقوله عن الدوقة الكبرى الراحلة .
" أنت، غاضب … أليس كذلك ؟ "
" نعم."
ما زال يتعين عليها أن تخبره بأن لديها المزيد لتقوله …
تجمدت أوليڤيا بسبب الإجابة القاطعة. شعرت بمزيد من الأسف لأنها تعلم أنه ليس من النوع الذي يعبر عن غضبه هكذا .
سقطت تنهيدة خافتة على كتفيها المتصلبتين، وتبعها صوت متألم جعل زغب أذنيها يقف حذرًا .
" ألهذا الحد …… "
" …… "
" ألهذا الحد كنتُ غير جدير بالثقة في نظرك، حتى أنك لم تستطيعي إخباري بأن ولي العهد يبتزك ؟ "
" …… ! "
****************************