في الوقت الذي احمرّت فيه السماء عند الغروب، وفي القصر الكبير، فتح الخدم الذين تعرفوا على إدوين باب القصر الأمامي .
و بمجرد أن ترجل إدوين عن حصانه، هرع مسرعًا للبحث عن أوليڤيا.
أجابه خادم كان قريبًا منه على الفور : " الآنسة في غرفة الطعام الصغيرة مع الدوق إلكين."
هرع إدوين إلى غرفة الطعام، بينما كانت كلمات الفارس تتردد في أذنيه : " أعتذر، يا صاحب السمو، كان الأمر يتعلق بوالدة الآنسة، لذا أبلغتها فقط للتحقق ! "
لقد طلب الدوق إلكين مقابلة أوليڤيا على انفراد، أثناء غيابه لفترة قصيرة في مدخل وادي سينوا، و الموضوع كان عن والدتها !
كان هذا أكثر موضوع يمكن أن يجذب انتباهها . لقد كان هذا خطأه. لقد أتى بأسرع ما يمكن، لكنه لم يستطع تقصير المسافة من وادي سينوا إلى القصر الكبير .
لحسن الحظ، كان باب غرفة الطعام مفتوحًا جاهزًا لأي طارئ .
" يسعدني أن الطعام قد نال إعجابك. "
جاء صوت أوليڤيا البهيج من غرفة الطعام . رفع إدوين سبابته على شفتيه غريزيًا. بينما كان الخدم الذين أرادوا الإعلان عن عودة سيدهم يكتمون أنفاسهم، وقف إدوين عند الباب و استمع إلى الحديث الدائر .
" عندما سمع رئيس طهاتنا أن الدوق قادم من العاصمة، أراد أن يُعد وليمة فاخرة، يؤسفني جدًا سماع أنك تشعر بتوعك."
" حتى الوجبة الخفيفة تظهر بوضوح براعة الطاهي، إنها لذيذة جدًا."
لم يكن وجه الدوق إلكين ظاهرًا من خلف الباب، لكن الحديث كان مهذبًا و مناسبًا .
بناءً على وصف "وجبة خفيفة"، لم تكن هناك الكثير من الأطباق أمام أوليڤيا التي كانت تسند ظهرها. وبما أن الوجبة انتهت على ما يبدو، كانت أوليڤيا تعرض الحلوى .
" ستعجبك، إنها موس شوكولاتة حلوة مع طبقة مقرمشة لذيذة."
كانت "غاناش" الحلوى المفضلة لدى أوليڤيا. إنه طبق خاص يعده الطاهي خصيصًا لأوليڤيا التي تحب النكهات المقرمشة، حيث يضيف إليه المكسرات المفرومة، لكن … هز إدوين رأسه ببطء في حيرة .
" آه، تذكرت الآن، سمعت أن الدوق يعاني من حساسية تجاه البندق."
وبمجرد أن أضافت أوليڤيا هذه الكلمات وكأنها تذكرت الأمر للتو، تردد صوت سعال قوي .
صاح الدوق إلكين بصدمة : " ماذا ؟! طبيب، أحضروا طبيبًا الآن ! "
كان الدوق إلكين يعاني من حساسية البندق. لم يكن هناك أي احتمال أن أوليڤيا لم تكن تعلم هذه الحقيقة المعروفة في كل أنحاء العاصمة .
وللتأكيد، لم تكن غرفة الطعام الصغيرة هي نفس غرفة الطعام المعتادة الذي يتناول فيه إدوين و أوليڤيا طعامهما .
إنه مكان أشبه بالكهف، لا توجد به نوافذ تسمح بدخول أشعة الشمس، و الصوت يتردد بداخله. يمكن التحكم في الإضاءة فيه فقط من خلال ثريا السقف …
" إنها مزحة."
… إنه مكان يسهل فيه السيطرة على الأجواء .
قالت أوليڤيا مبتسمةً ببراءة . بينما كان الدوق يسعل متذمرًا، تظاهرت أوليڤيا بعدم الاهتمام و راحت تمدح مذاق الحلوى .
" أيتها الآنسة، لديكِ جانب خبيث أكثر مما كنت أظن، أن تمزحي مع شخص لديه حساسية تجاه شيء ما."
" يا إلهي، هذا لا يذكر مقارنة بالمؤامرات التي دبّرها الدوق، ثم، ليس هناك نبيل لا يعلم أن الدوق يحمل دائمًا دواءه معه."
"مؤامرات"، فهم إدوين الوضع بالكامل، رغم أنه لم يكن يعلم ماهية تلك المؤامرات. ابتسم ببطء و أومأ برأسه نحو الخادم .
" سمو الدوق الأكبر ڤيكاندر قد وصل."
على الرغم من أن الوجبة لم تكن وليمة، إلا أن صوت الخادم كان مدويًا. وكأنها على خشبة مسرح متقنة، استقبلت أوليڤيا إدوين بابتسامة مشرقة .
" هل أتيت ؟ إدوين."
" … أنا سعيد بلقاء صاحب السمو، بطل الحرب، الدوق الأكبر."
عندما رأى الدوق إلكين إدوين، ابتسم بابتسامة ودية .
تحت هذا الوجه الماكر، كان التوتر و الغضب يغليان بشكل واضح، لكن هذا كان متوقعًا بعد نوبة السعال و الغضب التي أصابته قبل قليل بسبب قلقه من الحساسية .
" أتيت مسرعًا عندما سمعت أن هناك ضيفًا، لكنني أعتقد أن الآنسة أكثر مني براعة في استقبال الضيوف، لم أكن لأفكر في اختيار غرفة طعام مناسبة كهذه."
ابتسمت أوليڤيا بخجل من هذا الثناء، على عكس الدوق الذي كان وجهه متجهمًا .
" آه، أنت أول ضيف يزورني منذ قدومي إلى هنا، سمعت أنك ستبقى لبضعة أيام، … هل هذا مناسب يا إدوين ؟ "
" هذا لطف فائق، لا أمانع حقًا، كان خطأي أني أتيت فجأة، يا صاحب السمو."
لوح الدوق إلكين بيديه مرارًا و ابتسم بتكلف، لكنه لم يستطع أن يكسر كلمة أوليڤيا. أومأ إدوين برأسه كأنه أمر طبيعي .
" في الواقع، كنت أنوي دعوتك بشكل منفصل لاحقًا، لكنك جئت في الوقت المناسب، بما أنك أول زائر لي منذ أن أصبحت سيد الأسرة، ستنتشر الشائعات بسرعة إذا كان الاستقبال باردًا، لذا يجب أن أبذل قصارى جهدي في استضافتك أثناء إقامتك، حتى لو لم تكن وليمة فخمة."
" أين سيكون من الأفضل أن تكون غرفتك ؟ … إدوين، أريد أن أعطيه غرفة تليق بمقامه."
" أوليڤيا، يمكنكِ أن تختاري أي مكان في القصر، هذا من صلاحياتكِ، أنتِ تعرفين هذا القصر من الداخل و الخارج أفضل مني، آآآه ! "
صاح إدوين وكأنه تذكر شيئًا فجأة . رمش الدوق إلكين الذي كان وجهه يزداد تشنجًا .
هل كان سيعود للخارج مرة أخرى ؟ ظهر أمل زائفٌ على وجه الدوق إلكين، فتحدث إدوين بترددٍ مُتعمّد .
" هناك مكان واحد لم تزره أوليڤيا بعد، لا يمكن رؤيته من هنا، لكن هل تتذكرين البرج الأزرق و الأبيض خلف حديقة القصر الخلفية ؟ "
" بالتأكيد، سمعت أنه كان مكانًا لتربية الخنازير في الماضي، و يُستخدم الآن كحظيرة."
" حظيرة، صحيح، ما لم تستثني وجود سجن فاخر في أعلاه، يمكن أن يُستخدم لاحتجاز النبلاء."
في تلك اللحظة، شعر الدوق إلكين وكأن قلبه سقط. كانت تلك الكلمات موجهة إليه بوضوح .
عندما رأت أوليڤيا تعابير وجهه، شعرت ببرودة في قلبها . ڤيكاندر، هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يُذكر فيه كلمة "سجن" أمام نبيل كبير و شقيق الإمبراطورة .
شعرت وكأن شخصًا ما يحرضها على مضايقة هذا الرجل. بغض النظر عن حقيقة ما حدث في شارع إدينغتون، ما فعله الدوق إلكين بها، و بالدوقة مادلين، و بوالدتها … هزت أوليڤيا رأسها و فتحت عينيها ببراءة .
" حقًا ؟ كنت أظن أن السجن الذي يمكن أن يسجن النبلاء موجود فقط في القصر الإمبراطوري."
" لقد بناه أسلافنا منذ زمن بعيد، بسبب كثرة الغزاة الذين يهاجمون ڤيكاندر، أما أنا، فأنا دائمًا خارج حدود الإقطاعية، لذلك لم تتح لي الفرصة لزيارته، وكذلك أوليڤيا، وأما الدوق … "
تغيرت نبرة صوته فجأة في نهاية كلامه. في اللحظة التي نظرت فيها عيناه الحمراوان إلى الدوق، تجمد جسد الدوق إلكين كحيوان صغير أمام مفترس .
" … في الوقت الحالي، أنت مجرد ضيف، أليس كذلك ؟ "
مرّ صوته المنخفض حول أذنيه. وفي عينيه الحمراوان، ظهرت نية القتل .
شعر الدوق إلكين بقشعريرة، لكن الشيء الوحيد الذي استطاع فعله هو : " أنا ممتن لحسن الضيافة، يا صاحب السمو الدوق الأكبر."
لأن هذا المكان كان إقطاعية ڤيكاندر، منطقة الدوق الأكبر المحاطة بأسوار صلبة .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
" هكذا يكون الشعور."
في غرفة الاستقبال، وبعد أن رافق الدوق إلى غرفة نومه، كانا يحتسيان الشاي .
اقترح إدوين لعب الورق بعد فترة طويلة، فكان يخلط الأوراق بمهارة و زم شفتيه : " كنت أريد أن أحتفظ بسحر أوليڤيا الشقي لنفسي."
ضحكت أوليڤيا من كلماته .
" من أين سمعت ؟ "
" من قصة البندق."
" إذًا سمعتَ الذروة، للأسف، أنا لستُ بارعة في التهديد."
كان وجه أوليڤيا أكثر حيوية من المعتاد وهي تهز كتفيها. في الوقت نفسه، كان الجو مختلفًا تمامًا عن المعتاد .
هذا الأمر جعل إدوين يشعر بقشعريرة، فوضع الأوراق جانبًا و اعترف : " بما أن الدوق إلكين قد دخل أراضي ڤيكاندر، سأكون صريحًا، الدوق مادلين و الدوق الشاب، و السير جايد مادلين أيضًا، كلهم قادمون إلى أراضي ڤيكاندر الآن، كنت أريد أن أطردهم بهدوء دون علمك، لأنني أصدرت أمرًا بمنع دخولهم."
تذكرت أوليڤيا فجأة أمر منع الدخول الذي سمِعته في العاصمة، والذي أصدره إدوين ليمنع دخول أفراد العائلة الإمبراطورية و عائلة مادلين .
" على ذكر ذلك، كنت أريد أن أسألك : هل كان هناك حقًا من مُنع من الدخول ؟ "
" نعم، الابن الثاني للدوق، لو لم تكوني غاضبة، لكنت أبقيت على أمر المنع، لكن الآن، يجب أن أترك الأمر لكِ يا أوليڤيا."
نظرت أوليڤيا بهدوء إلى إدوين . "تركه لها" يعني أنه يعطيها كامل الصلاحية في اتخاذ القرار، سواء كان ذلك باستقبالهم في القلعة كما فعلت مع الدوق إلكين، أو بطردهم .
حدقت أوليڤيا في أوراق اللعب لبرهة بينما كانت ترتب أفكارها .
ملأ صوت الأنفاس الخفيف هدوء غرفة الاستقبال، وبعد لحظة من الصمت، سأل إدوين مرة أخرى : " ماذا سنفعل ؟ "
" … أرسل أحدهم أولاً إلى شارع إدينغتون."
" شارع إدينغتون ؟ "
رفع إدوين حاجبيه من ذكر منطقة الترفيه فجأة. لحسن الحظ، لم يسأل إدوين أي شيء في تلك اللحظة . رغم أنها لم تكن لتستطيع الإجابة على أي سؤال، فقد شعرت وكأن هناك شوكة في حلقها .
" نعم، هناك خبر أريد أن أتحقق منه، و غدًا صباحًا، سأذهب معك إلى وادي سينوا، وبعد ذلك … "
شعرت أوليڤيا وكأنها غرقت في ماء ساخن، فكتمت أنفاسها وهزت كتفيها بخفة .
" بعد ذلك، أريد أن أقرر."
" كما تريدين. " ابتسم إدوين .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
وفي الوقت نفسه .
" إلى حين أن يتم تأكيد تعديل نسبة الضريبة، لن تدفع ڤيكاندر أي ضرائب على المعادن."
في غرفة الاجتماعات الكبرى في القصر الإمبراطوري .
كان البارون هوارد إنترفيلد يكرر نفس الكلمات للمرة الخامسة والعشرين على التوالي .
" ما هذا الكلام الوقح ! "
" أتجرؤ على فرض شروط على جلالة الإمبراطور ؟ "
وكما في كل مرة، لم يكد ينهي كلامه حتى ثارت ثائرة النبلاء المحيطين به.
وسط هذا التكرار الممل، لم يرفّ هوارد له جفن. بل على العكس، شحذ حواسه بحدة .
وسط ضجيج النبلاء الصاخب في قاعة الاجتماعات، نظر إلى ولي العهد الذي كان يبتسم ببرود وهو يراقبه .
' لابد أنه سمع.'
في ذلك اليوم، عندما تحدث صاحب السمو الدوق الأكبر عن الوثيقة السرية، شعر بوجود أحدهم. وكان هذا الحضور بالتأكيد من ولي العهد .
اعتقد أنه سيستخدم الوثيقة السرية لإقناعهم برفع الضرائب، لكن هل من الممكن أنه قد تنبأ بأنهم لن يدفعوا أي ضرائب على الإطلاق بمجرد حصولهم على الوثيقة السرية ؟
بما أن العلاقة مع القصر الإمبراطوري ستنقطع بمجرد حل مشكلة الوثيقة السرية، فربما كان ولي العهد يخطط لأمر أكثر دهاءً .
هل هذا التفكير يرفع من قدر ولي العهد، أم يقلل منه ؟
صفق ولي العهد بيديه بخفة، وكأنه يريد تغيير الأجواء .
" هذا النقاش لا يتقدم أبدًا، إنه ممل للغاية، أيها اللورد إنترفيلد، كم هي نسبة الضريبة على المعادن التي يريدها سيدك ؟ "
" 5%."
احمرت وجوه النبلاء مرة أخرى .
" قلت لك ! نسبة 5% نفسها أمر لا يُعقل ! "
" النسبة الحالية التي تدفعها ڤيكاندر على المعادن هي 72.8% ! "
قال هوارد بهدوء : " لا يوجد أي مكان يدفع 72.8% كضريبة على المعادن، أخبرني، أيها البارون ديزايل، هل تدفع 72.8% كضريبة على العقيق ؟ "
احمرّ وجه البارون ديزايل الذي تم توجيه السؤال إليه. وكذلك النبلاء الآخرون الذين ذكر أسماءهم.
وسط صف النبلاء الذين بدأوا يتجنبون النظر إليه، صاح أحدهم بشجاعة : " هل هذا هو كل ما يملكه الدوق الأكبر ڤيكاندر من ولاء ؟ "
" بالتأكيد، من العجيب أن يدفع هذا المبلغ حتى الآن، ألا يُعدّ هذا ولاءً عظيمًا لا يمكن لأحد أن يضاهيه ؟ "
بسبب نبرة هوارد الهادئة، لم يكن بالإمكان تحديد ما إذا كانت كلماته سخرية أم جدية .
سعل أحد النبلاء بصوت عالٍ، بينما كان ليوبارد يواصل النظر إلى هوارد بعينين داكنتين .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
مكتب الإمبراطور في القصر .
" جلالة الإمبراطور يطلب دخولك."
عندما دخل ليوبارد المكتب، كان الإمبراطور يقف أمام النافذة الزجاجية الكبيرة وهو عابس.
" … هل هذا هو كل ما تملكه منطقة تريستان من حبوب ؟ "
كان صف عربات الحبوب المتتالية أقصر مما كان متوقعًا، ولكن مهما بلغت كمية الحبوب التي يمتلكونها، فإنها لا تقارن أبدًا بالضريبة المفروضة على المعادن .
خلال بضعة أيام، شعر الإمبراطور وكأن عشرات السنين قد مرت .
نظر إلى ولي العهد الذي كان يقف بعيدًا وسأله : " حسنًا، ماذا حدث لخطتك في تحريك النبلاء الغاضبين من ضريبة المعادن ؟ "
****************************