في الغابة الهادئة .
عندما توقفت العربة، كان جيوفاني مادلين يعرف تمامًا ما يريد قوله .
' … لم يكن ذلك خطأكِ، لقد كان خطئي.'
تلك الكلمات التي سمعها في إحدى الليالي عندما كان يطرق باب غرفة هيزل، بعد فترة قصيرة من مجيئها. كانت نفس الكلمات .
عندما عاد وجهها الصغير الذي تجاهله طويلاً ليظهر أمامه، واجه جيوفاني تلك الأحاسيس المؤلمة مرارًا وتكرارًا، و تمنى أن يتمكن من التكفير عن ذنبه .
كان قرار مسح تلك الأحاسيس المؤلمة يعود لأوليڤيا، لكنه اعتقد أنه على الأقل سيتمكن من الاعتذار، ولكن ……
" لا أعلم ما هي الطاقة التي شعرتم بها، ولكن بما أنكم ستعودون إلى العاصمة قريبًا، خرجت بنفسي لأتأكد حتى لا تنتشر أي تكهنات لا أساس لها."
عندما واجه أوليڤيا، شعر جيوفاني بالاختناق أكثر مما كان يتوقعه . وقفت أوليڤيا بظهر مستقيم، و واجهت الدوق وابتسمت ببطء ولكن بوضوح .
" إذن، ما هي الطاقة التي شعرتم بها ؟ "
كانت تتحدث بأسلوب غريب و مهذب، وكأنها تتعامل مع شخص غريب للمرة الأولى .
" أوليـ … ڤيا … "
نظر جايد إلى أوليڤيا وكأنه لا يصدق. كان صوته المرتعش مليئًا بالألم. قد يظن أي شخص يراهم أن علاقتهم مقربة للغاية .
كان كونراد أيضًا يبدو مثل جايد. كان تحت عينيه سواد، وكأنه لم ينم جيدًا، لكن أوليڤيا لم تعد ساذجة لتنخدع بهذه المظاهر .
بدلاً من ذلك، تولد لديها الشك .
لماذا جاؤوا إلى هنا و يتصرفون هكذا ؟
هل يرغب القصر الإمبراطوري في الحصول على إيسيلا ؟ هل يتصرفون هكذا لإغرائي ؟
لم يقل الدوق أي شيء، و ظل يحدق في أوليڤيا. كانت شفتاه المغلقتان بإحكام ترتجفان قليلاً، لكنها اعتقدت أنها تتخيل ذلك …
" بما أن لا أحد منكم يتحدث، لا أعرف ما هي الطاقة التي شعرتم بها، لكننا لم نشعر بأي طاقة في قصر ڤيكاندر."
… لأن ذلك مستحيل .
" يبدو أن هذا كافٍ لإزالة شكوككم، هل هناك أي شيء آخر تريدون قوله ؟ "
وأضافت أوليڤيا بأسلوبها المعتاد . لكنها انتظرت لعدة ثوانٍ ولم يفتح الدوق فمه. وكأن شخصًا ما أغلق فمه، لم يكلف نفسه عناء تحريك شفتيه .
لو كان شخصًا آخر، ربما كانت ستقلق للحظة وتتساءل عما إذا كان قد تجمد .
كانت عيناه بلون الجمشت اللتان تحدقان فيها غريبتين بعض الشيء، لكن أوليڤيا قررت التوقف عن تقديم أي اهتمام إضافي . قرأ كونراد تعابيرها، و أسرع بالنظر إليها وقال شيئًا ما .
" حسنًا، أوليـ …… "
" لا بأس، أيها الدوق الشاب."
في تلك اللحظة، امتلأت عينا كونراد بالألم، و تذكرت أوليڤيا فجأة أن شيئًا مشابهًا قد حدث في الماضي القريب .
بالطبع، في ذلك الوقت، كان كونراد هو من طلب منها أن تناديه بالدوق الشاب، وكانت هي من جُرحت .
عندما ابتسمت أوليڤيا بخفة، ارتعش خدا كونراد. يبدو أنه تذكر نفس الموقف. وبشكل لا يصدق، عيني كونراد كانتا تحمران .
ما هي خطتهم ؟ بدأت أوليڤيا في دراسة الدوق مادلين و ولديه بعناية مرة أخرى .
هؤلاء الأشخاص الذين اعتادوا دائمًا على ارتداء ملابس مكوية تمامًا و النظر إلى الناس ببرود، كانوا ينظرون إليها الآن … ربما، ببعض الشوق .
" إذا لم يكن لديكم شيء لقوله، لا بأس ألا تقولوا أي شيء، لأن سؤالي الآن هو آخر ما يمكن أن أقدمه من حسن نية."
' هذا مستحيل.'
ضحكت أوليڤيا بخفة و واصلت حديثها. كان قلبها ينبض بشكل أسرع من المعتاد. لا تستطيع أن تعرف إن كان هذا النبض بسبب القلق، أم بسبب الحماس القديم الذي يأتي مع يوم الأب .
" هذا رد الجميل على العربة التي قدمها لي الدوق في السابق."
لذلك، رسمت أوليڤيا خطًا فاصلاً أكثر وضوحًا .
لا يمكنها أن تكون مدينة لأحد. نظر جايد إلى أوليڤيا نظرة غاضبة بعد كلامها الأرستقراطي و المنطقي للغاية، لكن نظرته الضعيفة لم تكن مخيفة .
ولكن، المشاعر المختلطة بين الحيرة و الكراهية كانت تزعجها .
فجأة، قالت أوليڤيا : " لقد سمعت من الدوق إلكين، قال إنك قضيت ليلة مع والدتي بعد أن تناولت مخدرًا عن طريق الخطأ."
اتسعت عينا كونراد و جايد. كانت ملامح وجههما مصدومة، وكأن هذا ما كانت عليه ملامحها عندما سمعت عن المخدر لأول مرة .
تمنت أوليڤيا لو كان الدوق مادلين يبدو هكذا أيضًا. أن يتفاجأ وكأنه لم يعرف شيئًا، وأن يتجه غضبه أخيرًا إلى المسار الصحيح .
لكن الدوق مادلين، الذي كان يجب أن يكون الأكثر صدمة، كان ينظر إليها بهدوء تام. كان مذاق فمها مرًا. فضحكت أوليڤيا بخفة .
" … إذن، أنت كنت تعلم."
" … بالتأكيد، لأنه لو لم يكن مخدرًا، لما حدث ذلك."
تنهد الدوق بهدوء. كانت تلك الذكرى الواضحة من ذلك اليوم مثل نقمة تطارده طوال حياته . والآن أيضًا … ولهذا السبب، لم يدرك جيوفاني أن وجه أوليڤيا قد أصبح شاحبًا للحظة .
أدرك أنه دفعها إلى حافة الهاوية مرة أخرى بسبب الكلمات التي جاءت بعدها .
" إذن، كنت تكرهني وأنت تعلم ذلك."
تجمد الدوق للحظة من همسها الهادئ. مرّت ضحكة قصيرة من السخرية على عينيها الخضراوين اللتين كانتا تنظران إليه .
" شخص ما تآمر ضدك، وبسبب ذلك، وُلدت أنا و سببت لك شائعات غير مشرفة، و الشخص الذي كنت أحترمه قد توفي في حادث … "
توقفت أوليڤيا عن الحديث للحظة. على الرغم من أنها ذكرت زوجة الدوق بشكل غير متعمد، لم يغضب منها أحد .
بدلاً من ذلك، كان الجميع يرتجف .
هذا أمر غريب للغاية .
دون أن تدري، نطقت أوليڤيا بصدق .
" في ذلك الوقت، كان عمري ست سنوات فقط."
" …… "
" والآن، لا أزال في العشرين من عمري."
لا يزال عمري عشرين عامًا فقط .
كل كلمة نطقت بها أوليڤيا كانت كالصخرة تثقل قلب جيوفاني. كل الكلمات التي فكر فيها، مثل "عُودي"، تحطمت بلا جدوى.
وبعد فترة طويلة، كانت هذه هي الكلمات الوحيدة التي استطاع جيوفاني قولها .
" … لا بد أنكِ تكرهينني كثيرًا."
أصبحت أوليڤيا عاجزة عن الكلام بسبب الإجابة التي لم تستطع قولها، ثم رأت كتفي الدوق ينخفضان بلا قوة، فأجابت إجابة مختلفة .
" هذا لم يعد مهمًا، ربما هذه هي آخر مرة يمكننا فيها التحدث."
صوت أنفاس عميقة مرَّ بجانب أذنها. لم تحاول أوليڤيا أن تميز ما إذا كان صوت جايد أم كونراد . على الأرجح لم يكن صوت الدوق. بدلاً من ذلك، أصغت إلى أصوات الضحك التي حملها الهواء .
يبدو أن المهرجان ما زال مستمرًا في المقاطعة، فقد سمعت أصوات ضحك الأطفال و أغاني الكبار .
كان هذا هو يوم الأب الذي تمنته بالضبط .
أن يحتفلوا بيوم الأب معًا، أن يشاركوا في الغناء، و يقضوا اليوم وهم يشعرون بدفء بعضهم البعض .
الآن، يمكن لإدوين أن يستمتع بيوم الأب بالكامل، وهي ستحتفل بجانبه، لذا، حان الوقت لإنهاء هذا اللقاء . ابتسمت أوليڤيا بخفة ونظرت إلى الأمام مرة أخرى .
" هذا كل ما أود قوله، أتمنى لكم رحلة عودة مريحة."
أدت أوليڤيا التحية بأدب، ثم استدارت وكأنها لا تحمل أي ندم. هذا هو أقصى ما يمكنها فعله .
" أوليڤيا ! انتظري ! "
" لم أقل لكِ أي شيء بعد."
تحدث جايد و كونراد بالتناوب وكأنهما يتوسلان. كانت أصواتهما مليئة بالشوق لدرجة أنه كان من الصعب تصديق أنها موجهة إلى أوليڤيا، لكن أختهما لم تتوقف عن السير .
وعندما أدرك كونراد أن خطوتها كانت متجهة نحو العربة البعيدة، صاح فجأة : " لقد رأيتُ مذكراتكِ ! "
توقفت أوليڤيا دون وعي. مذكرات … باستثناء المذكرات التي تكتبها الآن، تركت كل مذكراتها في القصر .
لم تكن تتوقع أن يقرأها أحد .
نظرت أوليڤيا إلى كونراد بعينين مليئتين بالازدراء. على الرغم من أنه كان دائمًا صارمًا، إلا أنه أدرك معنى نظرتها، فأحنى رأسه نحو أوليڤيا.
انبعث صوته المتحجر : " … في طفولتي، لم يكن يجب أن أتحدث هكذا، أنا صادق، أنا نادم على تلك الكلمات … "
ما هي الكلمات التي يمكن أن تصل إلى أوليڤيا ؟
نظر كونراد إليها للحظة. عندما رأى عينيها الخضراوين اللتين كانتا تحدقان فيه، أدرك ما يريد قوله .
" … أنا نادم حقًا."
الندم .
تأملت أوليڤيا كلمات كونراد بتعبير جديد .
هل لأن هذا الوضع غريب، أم لأنها لا تستطيع أن تصدق تلك الكلمات، لم يكن 'الندم' الذي يتحدث عنه يصل إلى قلبها .
لم تعرف أوليڤيا السبب، لكن تلك النظرات المتلهفة كانت تضغط عليها بقوة. كانت سعيدة لسماع كلمة الندم، وفي الوقت نفسه لم تعد ترغب في سماع المزيد .
لقد شعرت بالتعب. لقد تحدثت مع أشخاص لم ترغب أبدًا في رؤيتهم، وكل هذا بسبب يوم الأب. لقد انتهى الحديث، ولم يعد لديها أي شيء لتقوم به، و يمكنها العودة إلى قصر ڤيكاندر .
" أوليڤيا، فقط استمعي لي لمرة واحدة."
لكن الصوت الذي يأتي من الخلف بدأ يعلو، وكان قلب أوليڤيا ينبض مثل طبول تنذر بالخطر .
أسرعت أوليڤيا خطاها نحو العربة. سمعت صوت أنفاسها وهي تلهث. و رأت ديان يقترب منها، و الصراخ المتلهف من الخلف أصبح أعلى وأعلى .
" أردت أن أقول لكِ، أنني آسف."
" أوليڤيا، أرجوكِ ! "
توقفت أوليڤيا للحظة، و توقف ديان الذي كان يهرع إليها بوجه قلق. كان وجهه مشوشًا، و رأته ببطء يبعد كل الفرسان .
وفي تلك الأثناء، أدركت أوليڤيا الكلمة التي كانت تتردد في الغابة .
"أرجوكِ"، "أرجوكِ"، ومرة أخرى "أرجوكِ".
ترددت الأصوات في الليل مثل طنين في أذنيها. وفجأة، انفجرت ضاحكة .
سمعا صوت ضحكة واضحة كأنها تشق سماء الليل. للحظة، نسي جايد و كونراد أن يمسكا بأوليڤيا و راحا يحدقان بها .
كانت أوليڤيا تضحك بوجه شاحب .
" لا تفعلوا ذلك."
" … ماذا ؟ "
" هذه الكلمة ليست بهذه البساطة."
" … ماذا تعنين …؟ "
" أرجوك."
قالت أوليڤيا الكلمة وكأنها تبصقها. الكلمة التي لم تعد ترغب في قولها أبدًا لعائلة مادلين …
" أرجوك، فقط احمني لمرة واحدة، لا تتركني وحدي في المأدبة."
الآن يمكنها قولها وهي تضحك . كان صوتها في أذنيها غريبًا. ربما لأنها كانت المرة الأولى التي تقول فيها بصوت عالٍ ما كانت تتمناه في داخلها دائمًا .
ولكن على عكس حالتها في ذلك الوقت، التي شعرت فيها وكأن جسدها كله مغطى بالقذارة، لم يكن وجه أوليڤيا هو الذي يتألم الآن .
وقف الدوق مادلين صامتًا، يراقب ولديه، و قبض على يده بقوة. كانت يده ترتجف دون أن يدرك .
مرَّ شيء ما على وجه أوليڤيا قبل لحظة. يأس عابر، و ابتسامة مصطنعة. كانت … أوليڤيا من الماضي، التي تجاهلها جيوفاني مادلين عشرات المرات .
" أرجوك، فقط خذ بعضًا من العصير، لقد عملت عليه بجهد كبير."
كلما استمر صوتها الهادئ، أغلق جيوفاني عينيه بقوة. عاد إليه كل المواقف الذي تجاهلها فيها .
كان الأمر أكثر حدة و قوة من أي ذكرى أخرى، ولا يُقارن بالشاي الذي كان يتذكره أحيانًا بعد رحيل أوليڤيا، أو صور القصر التي تلاشت .
" أرجوك، ضع صورتي في ركن من الغرفة."
بدءًا من الطفلة التي كانت تنظر إلى الغرفة بحسد و تبتسم عندما تتقابل عيناهما …
" أرجوك، انظر إليّ لمرة واحدة."
الفتاة التي كانت تقف بعيدًا و تبتسم بصعوبة عندما كان يحتضن إيسيلا .
" أرجوك، اعترف بي."
الطفلة التي بدأت في إخباره عن مواعيدها مع ولي العهد .
" أرجوك، أرجوك، أرجوك، يا أبي."
كان صوتها الذي يناديه جافًا بشكل لا يصدق . بدأت شظايا الذكريات الممزقة تتساقط عليه. أوليڤيا التي كانت تبتسم بشكل مؤلم، و ظهرت أمامه المواقف التي مرت بها حتى توقفت ابتسامتها .
عندما تذكر هذه المواقف القاسية، أدرك جيوفاني أن هذا كله مجرد وهم صنعه شعوره بالذنب، لأن جيوفاني لم يواجه أبدًا أوليڤيا وهي تتألم في ذلك الوقت .
عندما أدرك هذه الحقيقة، أدرك أيضًا أن الصوت الذي كان يضغط عليهم بلا هوادة قد توقف .
فتح عينيه بلهفة، و واصلت أوليڤيا كلمتها المتقطعة .
" … أبي، أرجوك دعني أناديك بأبي."
هذا هو شعورها الصادق الذي كشفته بنفسها .
نظر الدوق إلى أوليڤيا، و شعر بقشعريرة في ظهره. كانت عيناها تتجاهله تمامًا .
إلى أين تنظر أوليڤيا الآن ؟
لإمساك نظرتها التي بدت وكأنها ستغادره إلى الأبد، نادى الدوق على اسمها بلهفة .
" أوليـ … ـڤيا "
كان شعورًا غريبًا، وكأنه ينادي شخصًا غريبًا. وعندما أدرك هذه الحقيقة، شعر الدوق بألم حاد في حلقه .
ابتسمت أوليڤيا بشحوب .
" … بالنسبة لي، كان هذا هو معنى 'أرجوك'، شيء لم يتحقق لي أبدًا."
" …… "
" لذا، لا تقولوا 'أرجوك'، لأن هذه الكلمة لا تتحقق أبدًا."
كانت تمتماتها الهادئة مؤلمة. ربما لأن مشاعرها التي كانت تخفيها جيدًا قد ظهرت، بدأت عينا أوليڤيا تحمرّان .
" حاولتُ كبت ما بداخلي، لكن لماذا تستمرون في الضغط عليّ هكذا ؟ "
تجمعت الدموع الخفيفة في عينيها الخضراوين. وفي نفس الوقت، لم يستطع الدوق التنفس.
كانت الرائحة التي تلامس أنفه هي رائحة أوليڤيا، رائحة حزينة مثل الدموع .
" أنا حقًا … أنا حقًا أكرهك، أيها الدوق."
كانت تلك الكراهية أعمق و أكثر إيلامًا مما كان يعرفه .
تجمعت الدموع الشفافة التي كانت على وشك السقوط، لكن أوليڤيا لم ترمش، و استمرت في التحديق في الدوق حتى النهاية .
" وأكره مادلين كثيرًا."
وكأنها قررت أن هذا يكفي لإظهار ما في داخلها، استدارت أوليڤيا، و ابتعدت خطواتها ببطء .
وفي تلك اللحظة، أدرك جيوفاني أنه لم يرى أوليڤيا تبكي أبدًا .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
انفجر السدُّ المتدفق. وفي نفس الوقت، اجتاحت الكراهية و الغضب المتراكم الدوق مادلين .
الخطيئة الأصلية، لم تكن خطيئة أي شخص آخر … بل كانت خطيئته هو .
****************************