الفصل ١٣٣ : ‏Do Your Best to Regret

{ أفضل يوم أب على الإطلاق (2) }


أصبحت الغرفة المظلمة مضيئة مثل وضح النهار للحظات، ثم بدأت الأضواء الخضراء داخل جسد الرجل، التي كانت واضحة وكأنها تخترق الملاءة البيضاء، تخفت تدريجيًا .

أسرع جيرون و الطبيب، اللذان كانا متجمدين في مكانهما، نحو الرجل، لكن لم يكن هناك شيء يمكنهما فعله . بدأ تنفسه الهادئ يزداد خشونة تدريجيًا .

صوت جيرون و الطبيب الملِح، الأضواء التي تتلاشى بهدوء، و أصوات أنفاسه التي تتقطع بشكل متقطع .

كل هذا حطّم الحدود بين الواقع و اللاوعي لدى أوليڤيا، وفجأة، عادت إلى الواقع. كانت يد إدوين التي تمسك بيدها باردة بشكل مفاجئ .

" إد …… "

ابتلعت أوليڤيا الكلمة التي كانت ستنادي بها إدوين. كانت يده التي أمسكت بيدها وكأنها الخلاص الوحيد له، ترتجف .

كان وجهه شاحبًا، و عيناه مثبتتان على الرجل المستلقي .

كانت هذه هي المرة الثانية التي ترى فيها وجهه وكأنه على حافة الهاوية. أمسكت أوليڤيا بيد إدوين لا إراديًا و جذبته نحو الرجل .

كان عليه أن يمسك به بينما لا يزال الدفء باقيًا .

لماذا انتظرت و تراجعت، ولماذا لم تظهره له من قبل ؟ ماذا كانت تحاول أن تتأكد منه ؟

" أ، أبي … "

كانت أنفاسه سريعة، ولم يتمكن من إكمال الكلمة، وفي اللحظة التي لامست فيها يد إدوين الباردة يد الرجل، لمع الضوء الذي كان على وشك أن ينطفئ، مثل شظايا جوهرة مكسورة .

أدركت أوليڤيا غريزيًا ما هي تلك الشظايا .

كانت قطعة من قلادة الحجر السحري، التي لم تكن تعرف مكانها، القطعة الثانية المتبقية .

وفي الوقت نفسه، تذكرت كلمات جيرون .

"بينما تقتصر قدرات العائلة المالكة على قدرة معينة، فإن قدرات الكهنة لا حدود لها، ولكن بما أنهم ولدوا ليكونوا أحباء الحاكم، فلا يمكنهم تحقيق أمنيات إلا للآخرين وليس لأنفسهم."

إذا كانت هناك حاكمة، وإذا كانت روينا قد أرسلت حقًا كهنة بعيون خضراء مثلها إلى هذه الأرض …!

سحبت أوليڤيا قلادتها التي كانت حول عنقها بقوة وكأنها تقطعها. قبل أن يزول الألم الخفيف في مؤخرة عنقها، وضعت أوليڤيا الحجر السحري على المكان الذي كانت تتلامس فيه يدا الرجل و إدوين.

" إدوين، أمسك هذا معي."

عندما نظر إليها بعينين محمرتين لم تستطع البكاء، أومأت أوليڤيا بقوة مرة أخرى .

لا تعرف من أين يأتي هذا اليقين الغريب، لكن إدوين أمسك بالحجر السحري كما طلبت أوليڤيا.

لم يخبرها أحد، ولكن وكأنها تعرف منذ زمن بعيد، انبعثت صلاة خافتة من بين شفتي أوليڤيا.

وفي نفس اللحظة التي وضعت فيها الحجر السحري بين يدي الرجل و إدوين، انفجرت قوة نقية و غريبة بشكل مذهل، و سيطرت على الغرفة بأكملها.

بدأ التيار الأخضر الذي كان يتدفق داخل جسد الرجل يتلألأ مرة أخرى .

من القلب إلى البطن، ومن أصابع القدم إلى الرأس. بدأت الأضواء التي غطت جسد الرجل بالكامل، من وجهه و صدره، في الدوران .

وكأنها تستخدم قوة مكثفة، وكأنها تطلق آخر ضوء لها. بدأت الأضواء التي كانت تشق طريقها ببطء في جسده الذي توقفت طاقته، تذوب فيه ببطء وبشكل كامل .

وعندما اختفت هالات الضوء تمامًا، تدفق ضوء القمر الفضي إلى الغرفة مرة أخرى .

في الصمت الذي أصبح فيه حتى صوت الأنفاس مسموعًا، تفقدت أوليڤيا بسرعة حالة الرجل .

استقر تنفسه المتقطع، وكان دفئه لا يزال موجودًا، و ارتعش الضماد الذي يغطي عينيه، وكأنه على وشك فتحهما .

يبدو أن إدوين شعر بذلك أيضًا. ابتلع أنفاسه، و أنزل الضماد بيد مرتجفة .

أبي … إنه أبي .

على الرغم من أن شعره و رموشه قد أصبحا أبيضين، إلا أن وجهه كان هو نفسه وجه أبيه في يوم رحلته منذ زمن بعيد. ارتعشت رموشه ببطء، ثم انكشفَت عيناه الحمراوان اللتان تشبهان عيني إدوين بشكل واضح .

" … يجب أن أذهب إلى ڤيكاندر."

بدأ تنفس إدوين يزداد خشونة عند سماع صوت الرجل. قال الرجل بصوت ضعيف يكاد أن ينطفئ مرة أخرى : " سيكون في انتظاري."

" أ، بي، أ بـ، ـي، أبي …"

وكأنه تعلم كلمة "أبي" لأول مرة، راح إدوين ينادي أبيه مرارًا وتكرارًا. وكأنه سمع تلك الكلمة الواحدة، فتح الرجل عينيه الضبابيتين و نظر إلى حيث مكان إدوين .

" إ … دوين ؟ "

" نعم، أنا هو."

وكأنها الإجابة التي كان ينتظرها، ابتسمت عينا الرجل بحنان، ثم غرق في النوم مرة أخرى .

نظر إدوين إلى وجهه ولم يستطع قول أي شيء. شعور غريب ملأ شفتيه المرتجفتين.

أحد عشر عامًا. كانت فترة طويلة لم يستطع فيها أن يبكي بصوت عالٍ. شعر إدوين أنه إذا ظهر ضعيفًا للحظة، فإن ڤيكاندر ستتحطم و تختفي .

لذلك، حتى في مواجهة هذه المعجزة، لم يكن إدوين يعرف ماذا يفعل. أصبحت رؤيته ضبابية، و أحس بلسعة في أنفه، و أصبح عقله فارغًا مرة أخرى .

" … تهانينا، يا إدوين."

تجمد جسد إدوين من الدفء الذي غطى ظهره، و همس له صوت حنون في أذنه .

" أنا سعيدة جدًا لأن هذا أفضل يوم أب على الإطلاق."

في تلك اللحظة، بدأت الألعاب النارية تتفجر خلف النافذة الزجاجية، و كلمات ملونة تزين سماء الليل السوداء .

كانت الكلمات تقول "أفضل يوم أب". كانت هذه الألعاب النارية احتفالاً ببدء يوم الأب بعد منتصف الليل .

بينما كان إدوين يرى الألعاب النارية تتلألأ و تنفجر، أدرك أخيرًا أن كل هذا حقيقة .

منذ زمن بعيد، كان يتمنى أن يرى أباه مرة أخرى في يوم الأب … لمعت عينا إدوين أمام هذا الواقع الجديد .

ثم وضع وجهه على يد أبيه التي أمسك بها بعد أحد عشر عامًا. كانت اليد التي يمسك بها دافئة، و الاحتضان على ظهره كان حنونًا .

— الصورة التوضيحية : هـنـا .

أشياء لن تتغير أبدًا . الأب الذي عاد، و أوليڤيا التي ستكون دائمًا بجانبه، و رفاقه في ڤيكاندر، وكل الأشياء التي كافح من أجلها .

أمام هذه الحقائق، عاد الدوق الأكبر إدوين لوڤيل ڤيكاندر، الذي كان عليه دائمًا أن يكون قويًا، للحظة إلى ذلك الوقت من طفولته … إلى اليأس الذي شعر به عندما فقد كل شيء وكان عليه أن يبدأ من الصفر، ثم المجد الذي استعاده في النهاية .

وكأن سدًا قد انهار، انبعثت من شفتيه شهقة بكاء. بعد أحد عشر عامًا، عاد الدوق الأكبر السابق، الذي أُعلن عن وفاته .

*

*

عندما استقر الضوء الخافت، خرج جيرون و الطبيب بحذر من الغرفة، و ظلا صامتين لفترة طويلة أمام هذه الحقيقة التي لا تُصدّق .

لم يعرفا من أين يبدآن الحديث .

لم يستطع جيرون أن يصدق أن الرجل الذي كان يعتني به هو الدوق الأكبر السابق لڤيكاندر، ولم يستطع الطبيب التعبير عن فرحته و ذهوله لكون الدوق الأكبر السابق، الذي أُعلن عن وفاته، كان على قيد الحياة وقريبًا جدًا منهما .

كسر الصمت الفارس بروك الذي أسرع إليهما بلهفة .

" هل أنتما بخير ؟ شعرت بطاقة غريبة …! "

لم يستطع بروك إخفاء ارتباكه من تلك الطاقة التي لم يشعر بها من قبل، و نظر إلى باب الغرفة. في تلك اللحظة، فُتح الباب و خرجت الآنسة .

" … كلاكما هنا، وأنت أيضًا، يا لورد دروين."

كانت الآنسة هادئة بشكل غريب. نظر بروك إلى عينيها المحمرتين من البكاء، فحوّل بصره بسرعة. كان المكان الذي نظر إليه هو خلف الباب الذي كان يُغلق .

شكّ بروك في عينيه مرة أخرى . على الرغم من أن اللحظة كانت سريعة، إلا أن الرجل الذي كان جاثيًا على ركبتيه و وجهه مدفون في السرير هو بالتأكيد سمو الدوق الأكبر …

سأل بروك بصوت مرتجف : " … شعرت بطاقة، غريبة، هل حدث شيء لسمو الدوق الأكبر …؟ "

نظرت أوليڤيا إلى بروك، و الطبيب، ثم إلى جيرون. كانوا ينظرون إليها بوجه قلق .

" … أي نوع من الطاقة شعرت بها ؟ "

" إنها ليست طاقة خطيرة، بل طاقة جيدة، ولكنها طاقة ظهرت فجأة وبقوة … "

تلعثم بروك. ابتسمت أوليڤيا بثقة و أصدرت أمرًا حاسمًا : " عززوا حدود الإقليم، و تأكدوا من مدى انتشار الطاقة."

يجب على إدوين أن يستمتع بهذه اللحظة السعيدة بالكامل، ولتحقيق ذلك، كان عليها أن تتولى زمام الأمور .

" أيها السير بروك، احرس هذا المكان حتى تأتي بيثاني مع التأكد من عدم دخول أي شخص إلى الغرفة، سموه سيعلن بنفسه عن ما حدث."

أومأ بروك بطاعة. نظرت أوليڤيا مرة أخرى إلى جيرون و الطبيب أونيل .

" هل يمكنكما أن ترافقاني إلى مكان المهرجان ؟ "

إذا كان بروك قد شعر بها، فمن المؤكد أن آخرين في المقاطعة قد شعروا بها أيضًا. كان أكثر من سيتأثرون بهذه الطاقة هم ذو العيون الخضراء، لذا كان عليها أن تهدئ من قلقهم .

بالإضافة إلى ذلك، كان عليها أن توضح ما حدث للتو .

وكأنهما فهما ما تقصده، أومأ جيرون و الطبيب برأسيهما .

في تلك اللحظة، قال بروك بحذر مرة أخرى : " آنستي، لدي شيء أريد أن أقوله لكِ."

أدركت أوليڤيا، وهي تراقب وجه بروك المتردد، ما كان على وشك قوله .

" في ذلك الوقت … في وادي سينوا … "

لم يندم بروك على قراره بمنع سمو الدوق الأكبر من إنقاذ الآنسة في ذلك الوقت. ومع ذلك، كان دائمًا يشعر بالضيق. كفارس … شعر بالندم المتأخر ولم يعرف كيف يبدأ .

" لا بأس."

وكأنها تعرف ما كان سيقوله، غمزت أوليڤيا بعينها. تقلصت المسافة بينهما على الفور . نظرت الآنسة إلى الخارج و ابتسمت ابتسامة مشرقة.

" اليوم هو يوم الأب الذي عاد بعد غياب طويل."

عندما استدارت الآنسة، شوهدَ خط أحمر باهت على عنقها الأبيض من بين خصلات شعرها المتطايرة .

*

*

لحسن الحظ، لم يشعر الكثيرون بقوة الحجر السحري غير بروك .

" هل أنتم بخير ؟ لقد شعرت بطاقة غريبة قادمة من قصر الدوق الأكبر ! "

كان وجه ديان شاحبًا وهو يهرع إليهم، بينما بدا باقي الفرسان في حيرة من أمرهم، و تقرير بروك كان مماثلاً .

" يبدو أن لا أحد في القصر شعر بها غيري، على ما يبدو، أنا متفوق في الإحساس بالطاقات الدقيقة."

كان أكثر من يثير القلق هو الدوق إلكين، ولكنه لم يشعر بأي شيء وبقي في غرفته غاضبًا .

على الرغم من أن معظم ذوي العيون الخضراء قد شعروا بها، إلا أن الأمر بدا مقبولاً بعد أن أخبرهم جيرون أنه كان يصلي من أجل السلام .

بالإضافة إلى ذلك، بما أن الطبيب الذي فحصهم أكد لهم أن كل شيء بخير، استعاد الناس هدوءهم بسرعة، و اندمجوا في أجواء المهرجان .

" … لقد أطلقتِ معجزة، يا كاهنة."

تحدث جيرون الذي كان يراقب المشهد معها .

كانت معجزة بحق. أومأت أوليڤيا برأسها بهدوء و فكرت في الحجر السحري الذي أعطته لإدوين .

هل توقعت الدوقة الكبرى السابقة يومًا كهذا ؟ هل تركت تلك القلادة كعلامة إرشاد ؟

لكن أوليڤيا ضحكت بخفة. مهما كان السبب، فإن ما حدث كان جيدًا، لأنه أصبح أسعد يوم أب لإدوين .

الآن فقط شعرت بالتوتر يتلاشى، و استنفدت كل ما بجسدها من قوة .

بينما كانت تنظر إلى كلمات "يوم الأب" المحفورة على اللافتات التي ترفرف في كل مكان، فكرت في إدوين الذي كان يشعر بأكثر المشاعر إشراقًا في هذه اللحظة .

في تلك اللحظة، شعرت ببعض الاضطراب بين الفرسان. بدا وجه ديان جادًا قليلاً بعد أن تلقى تقريرًا .

عندما نظرت إليه أوليڤيا، ابتسم سريعًا وقال وكأن الأمر ليس بشيء مهم : " … يبدو أن هناك بعض الفوضى عند بوابة القصر."

خارج بوابة القصر. كانت هذه الكلمات وحدها كافية للتفسير. نظرت أوليڤيا إلى بوابة القصر .

" هل يا ترى اللورد مادلين شعر بالطاقة ؟ "

لم يقل ديان أي شيء .

هل هذا مجرد تصرف طفولي أم تحدٍ ؟

أم أنه كراهية قديمة ؟

لم تستطع التمييز بين هذه المشاعر التي كانت تحاول كبتها ولكنها تطفو على السطح، فقالت أوليڤيا بهدوء : " أخبره أنني سأذهب إلى البوابة بنفسي."

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

في تلك الأثناء، وفي القصر الإمبراطوري، كان هناك أمر آخر لم تكن أوليڤيا تتخيله حتى في أحلامها .

" بمناسبة مهرجان يوم الأب، جلالة الإمبراطور …… "

في قاعة الاحتفالات الفخمة. بعد أن أنهى ولي العهد خطابه السلس، وبينما كان الجميع يصرخ "من أجل جلالته!"، تجمد وجه ليوبارد الذي كان يبتسم في المأدبة الرائعة، في لحظة .

في الوقت نفسه، تجمد جسد هوارد و وينستر وبعض الفرسان الآخرين، و شعروا غريزيًا بالشيء الغريب الذي أحس به كل منهم .

في وسط الأحاديث الصاخبة، كسر ليوبارد حالة المواجهة الغريبة .

بعد أن استمع إلى تقرير الكونت هاجيس وغادر قاعة المأدبة، تأكد ليوبارد من عدم وجود أحد حوله، ثم قال وكأنه يطحن أسنانه : " ماذا تعني بذلك ؟ "

" حسنًا، الساحر يقول … "

ابتلع الكونت هاجيس نفسه بتوتر قبل أن يتابع : " … أنه شعر بقوة سحرية هائلة من الشمال."

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

خارج بوابة قلعة ڤيكاندر .

حدق جايد من داخل البوابة، بتوتر، بدا أن والده و شقيقه كانا قلقان بنفس القدر .

" … قالت الآنسة إنها ستأتي بنفسها."

كانوا ينتظرون منذ فترة طويلة في الغابة، حيث أرشدهم ديان سيزيلين. اقتربت العربة و توقفت أمامهم. وبعدها، ظهرت أوليڤيا تحت ضوء القمر .

نهض جايد فجأة وصرخ : " أوليڤيا، هل أنتِ بخير ؟ شعرت بطاقة غريبة قادمة من داخل القلعة …! "

" لا تقترب مني، أيها اللورد مادلين."

رسم صوتها الحازم خطًا فاصلاً . خلف هذا الصوت الخالي من أي مشاعر، والذي جعل جايد و كونراد وحتى الدوق مادلين يتجمدون في مكانهم، جاءت جملة أخرى .

" أنا بخير، يا ديان."

هاتان الجملتان فقط فصلتا بين العائلة ومن هم ليسوا منها .

نظر جايد إلى أوليڤيا بعيون مجروحة، تملأها مشاعر اليأس، لكن عينيها الخضراوين الهادئتين واجهتا عائلتها وكأن شيئًا لم يكن .

" أحيي الدوق مادلين، و أحيي الشابين."

" …… "

" هل شعرتم بالطاقة ؟ "

****************************

*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم

اعلان