الفصل ١٢٨ : ‏Do Your Best to Regret

{ لوحة الدوق الأكبر و الدوقة الكبرى السابقين (2) }


ذلك المكان حيث يدخل ضوء القمر الأبيض الذي يغمر النافذة بأكملها. إنها غرفة استقبال ملحقة بغرفة بيثاني، أو بشكل أدق، المكان الذي توجد فيه صورة الدوقة الكبرى السابقة .

بمجرد أن أزاحت بيثاني الستار، حبست أوليڤيا أنفاسها .

" لقد قيل أن الدوقة الكبرى السابقة كان لديها عيون خضراء أيضًا، فلماذا لا تفهمين أن الحب الذي تتلقينه ليس سوى بديل عن الدوقة الكبرى السابقة ؟ "

كان وليّ العهد مخطئًا. الشيء الوحيد الذي تشترك فيه مع الدوقة الكبرى السابقة هو لون العينين فقط .

شعرٌ ذهبيٌّ لامع وكأنه مصبوبٌ من الذهب المذاب، و عينان خضراوان ساحرتان. وجهٌ جميلٌ ينسيكَ أن تتنفس، ابتسامةٌ مشرقةٌ، و هيبةٌ و وقارٌ يمكن الشعور بهما من اللوحة فقط .

الشخص الذي يشبه الدوقة الكبرى السابقة تمامًا، هو إدوين لوڤيل ڤيكاندر .

الوريث الوحيد لدم لوڤيل الذي ورثه عن الدوقة الكبرى السابقة، هذا كلّ ما في الأمر .

" … إنها أمي."

تمتم إدوين بصوتٍ نقيٍّ كضوء القمر الأبيض .

" كانت جميلةً جدًا و قويةً و مرحةً."

" إدوين، أنت حقًا تشبه والدتك كثيرًا."

انحنت زوايا عيني إدوين بابتسامة .

" أشبهها تمامًا، لدرجة أنها كانت تنظر إليّ بتمعّنٍ من وقتٍ لآخر لتجد شيئًا من والدي فيّ."

شعرت أوليڤيا أن هذه هي فرصتها. وقتٌ للتأكد من شكوكها الصغيرة، بتلقائيّة، لذا، ابتسمت بهدوء، على الرغم من أن قلبها كان يخفق بشدة .

" هذا مثيرٌ للاهتمام، أودّ أن أرى صورته أيضًا."

" ذلك … بالنسبة للوحة الدوق الأكبر السابق … "

" للأسف، لا وجود لها."

أكمل إدوين حديث بيثاني المترددة : " صورة والدي … لقد أحرقناها في ذلك الوقت."

نظرت أوليڤيا إلى إدوين الذي هزّ كتفه وكأن الأمر لا شيء، و عضّت طرف لسانها .

في خضمّ محاسبة المسؤولين عن الحرب التي انتهت بالهزيمة، لم يكن التمسّك بالشرف الضائع للقائد العام أمرًا مفيدًا للعائلة .

ما تعلّمته أوليڤيا من الكتب فقط، عاشه إدوين بنفسه. لا بدّ أنه أحرق كلّ شيء متعلّق بوالده، وليس فقط لوحته .

شعرت بالأسف لأنها لم تأخذ جرحه في الاعتبار، وبالحذر لأنها لم تكن تعرف ماذا تقول. تفرقت شفتا أوليڤيا.

ابتسم إدوين عندما رأى ما تخفيه على وجهها الصافي، ثمّ انحنى ولفّ أصابعه بأصابعها .

الشعور البارد للخاتمين الثمينتين على إصبعها كان مرضيًا للغاية، لكن حقيقة أنها لم تضع خواتم على كلّ أصابعها ……

" … هذا يحزنني، يا ليڤ."

" ماذا ؟ "

نظرت أوليڤيا إلى إدوين بذهول. عندما ركّزت عيناها الخضراوان عليه بالكامل، رفع زاوية فمه ببطء .

" أنتِ فضوليّة بشأن صور والدي و والدتي، فلماذا لم تسألي عن صورة طفولتي ؟ "

" …… "

" آه، هذا صحيح، إذا كنتُ لا أقارَن به في الواقع، فمن المستحيل أن أقارَن به في لوحة."

لا بأس أن تسمّي هذا غيرةً مضحكةً، أو تذمّرًا . طالما أن عيني أوليڤيا مركّزتان عليه فقط، فكلّ شيء لا يهمّ إدوين .

كلماته بأن تفعل ما تريد، ستصبح كذبة . ففقدان أوليڤيا و الاختفاء في مكانٍ ما، مثلما حدث لوالديه اللذين كانت تتساءل عنهما، هو أمرٌ لا يمكن أن يحدث أبدًا .

أخفى إدوين أفكاره القاسية، و سحب يدها المتشابكة بيده بإحكام، والتي لا يمكنها الهرب منه، نحو وجهه، ثم مرر شفتيه برفق من معصمها الرقيق إلى راحة يدها .

" قالت أمي إنني كنت جميلاً كالملاك الصغير عندما كنت طفلاً."

مهما كان عمره، لا بدّ أنه كان جميلاً . بين أنفاسها التي كانت تزداد حدّةً عبر شفتيها المغلقتين، لم تستطع أوليڤيا أن تنكر ذلك .

في خضم هذا الذهول، راحت صورة إدوين وهو صغير تتكاثر في رأسها .

" ألا تشعرين بالفضول، يا ليڤ ؟ "

نظراته التي كانت على راحة يدها التي يقبّلها، تحوّلت ببطء نحو أوليڤيا .

عندما تلاقت النظرات، رمش إدوين بعينيه، وكأنه قرأ أفكارها، برقت عيناه الحمراوان ببريقٍ آسر .

تجمّدت أطراف أصابعها، و شعرت بدغدغة في مكان ما في بطنها، وقلبها يخفق بشدة، فعضّت أوليڤيا شفتها السفلى .

عندما ابتسمت وهي تحاول أن تبدو هادئة، قال إدوين بابتسامة خافتة : " يا أوليڤيا، إذا استمريتِ في عضّ شفتكِ، فسأعضّكِ أنا أيضًا."

" أنا ؟ "

" نعم."

ابتسمت أوليڤيا قليلاً وهي تظنّ أنها مزحة، ثمّ شحب لونها فجأةً قبل أن تتحوّل إلى اللون الأحمر تمامًا .

قام إدوين بفرد إصبعها السبابة بلطف، ثم ابتسم بنظرة ماكرة، وعضّ طرف إصبعها السبابة .

— الصورة التوضيحية : هـنـا .

أنفاسٌ دافئة و واضحة على أطراف أصابعها الحساسة. كان ذلك وقتٌ كادت أن تغرق فيه أوليڤيا في نظراته الجريئة .

" لقد أحضرتُ اللوحة …! "

" بيـ، بيثاني ؟ "

آه … ابتعدت أوليڤيا عن إدوين وكأنها استيقظت من حلم، و نظرت نحو الباب .

كانت بيثاني التي عادت من مكانٍ ما وهي تحمل إطارًا، على وشك أن تغادر الغرفة مرة أخرى وكأن شيئًا لم يكن .

" … لقد أحضرتُها، ولكنني تذكرتُ أنني نسيتُ شيئًا ما … "

" لاا ! بيثاني ! "

*

*

" أظن أن آنستي تريد حقًا رؤية لوحة الدوق الأكبر السابق، في الحقيقة، لقد احتفظتُ سِرًّا بلوحة عائلية رسمها سموه عندما كان صغيرًا جدًا."

أوليڤيا التي كانت تأمل في ذلك، لم تستطع أن تكبت ضحكتها عندما رأت اللوحة، وقالت : " هل الصفة المشتركة التي تحدثت عنها الدوقة الكبرى السابقة هي لون الشعر و العينين فقط ؟ "

" إجابتكِ صحيحة يا أوليڤيا، أنتِ تفهمين أسلوبي في الرسم جيدًا."

كانت لوحة رسمها طفلٌ بأقلام تلوين، يظهر فيها ثلاثة أشخاص يبتسمون جنبًا إلى جنب، مع اختلاف لون الشعر و العينين فقط .

يمكن التمييز بينهم من خلال طول القامة : الدوق الأكبر و زوجته، ثمّ إدوين .

لا يمكن مقارنته أبدًا بالرجل ذي الشعر الأبيض الذي رأته في ذلك "المنزل".

في الحقيقة، لم يكن هناك سبب واضح لتخمينها أن ذلك الرجل هو الدوق الأكبر السابق. فضحكت أوليڤيا، و راحت تنظر إلى اللوحة بعناية، ثم ابتسمت بخبث .

" حقًا، لقد كنتَ ملاكًا صغيرًا، يا إدوين، هل قمتَ برسم الأجنحة بنفسك ؟ "

" لا أعلم، ربما كان ملاكٌ حقيقيٌّ هو من رسمها."

هل يمكن أنه لا ينزعج أبدًا ؟ بينما كانت أوليڤيا تضحك وكأنها لا تستطيع فعل شيء آخر، خطرت ببالها فكرة رائعة .

" إذًا ماذا عن قصتي ؟ قصص لوڤيل القديمة التي قلتَ أنك ستجعلها في كتاب مصوّر ؟ "

قصة قديمة سمعها إدوين من الدوقة الكبرى السابقة عندما كان صغيرًا. لم يقل إدوين إنه سيرسمها بنفسه، لكن أوليڤيا كانت وقحة .

هذا مجرد مزاح خفيف مقارنةً عندما جعلها تشعر بالخجل قبل قليل .

بينما كانت بيثاني تميل رأسها وتقول : " قصة قديمة ؟ "، استرخى إدوين على كنبة غرفة الاستقبال وابتسم : " بما أن موهبتي في الرسم انكشفت، سأرويها لكِ بنفسي."

على الرغم من أنه قال إنه لا يتذكرها جيدًا لأنها قديمة، بدأ إدوين في سرد القصة ببطء : " في قديم الزمان، في زمنٍ بعيدٍ جدًا، كان هناك فتى شجاع، عندما كان العالم مظلمًا، كان يحمي القرية من الوحوش و الغزاة … "

مالت أوليڤيا بجسدها إلى جانب إدوين .

لاحظت بيثاني الأجواء الهادئة في غرفة الاستقبال، فخرجت من الباب قائلةً إنها ستأتي بالشاي .

استمرّ الصوت اللطيف الذي يملأ الأذن في سرد القصة. كانت القصة تشبه الأساطير التأسيسية للإمبراطورية .

قصة عن شجاعٍ يؤسس دولة . أول ملك للإمبراطورية قتل تنينًا و أسس دولته على النعم التي مُنحت له …

بينما كانت أوليڤيا تستمع باهتمام لقصة إدوين، تجمد جسدها فجأة .

" … فصلّى الفتى، و الحاكم الذي أحبّ البشر كثيرًا، وثق بالفتى بعد ثلاثة اختبارات، و أرسل إليه ملاكًا."

* تم تغيير الكلمة لـلحاكم .

" …… "

" ولكي يمنح الملاك حمايةً أبديةً لبلاد الفتى الذي أصبح ملكًا، راح يرسل ملائكة آخرين يشبهونه باستمرار."

باستمرار … لم تسمع في أيّ أسطورة أخرى فكرة إرسال ملائكة بشكل مستمرّ من أجل بركة لا تنتهي .

بلادٌ تنمو بقوّة البشر تحت بركةٍ واحدة. كانت هذه هي الأسطورة الأنسب لتعزيز السلطة الإمبراطورية، ولكن قصة أن الدولة كانت تحصل على مساعدة الملائكة باستمرار …

" وفي المملكة، تعبيرًا عن الشكر للحاكم الذي أرسل الملاك … "

توقّفت القصة التي كانت تسرد بسلاسة. رفع إدوين حاجبيه و حاول أن يتذكر بقية القصة. كان هناك شيء آخر، ولكن ذاكرته كانت غائمة كضباب كثيف .

" … هل كانوا يقيمون طقوسًا للتعبير عن امتنانهم للملاك ؟ "

" يا ليڤ، هل كنتِ تعرفين هذه القصة ؟ "

نظر إدوين الذي بدا سعيدًا لأنه تذكّر شيئًا، إليها. قالت أوليڤيا وهي تكبح جماح دهشتها : " من هنا، تبدو القصة وكأنها تتطابق مع قصة لوڤيل التي سمعتها من بيثاني."

هذه ليست مجرد قصة قديمة، بل ربما هي أسطورة تأسيس مملكة لوڤيل. والأهم من ذلك، إنها قصة الملائكة التي قد تكون مرتبطة بالكهنة .

يبدو أن إدوين أيضًا قد أدرك العلاقة بين هذه القصص .

" … يجب أن أرى جيرون حقًا."

مع كلمات أوليڤيا القويّة، بدأ وجه إدوين الهادئ يتغيّر .

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

قصر الدوق الأكبر في العاصمة .

رفع هوارد حاجبًا واحدًا .

" بروك سيكون حارسًا شخصيًا للآنسة ؟ "

بدا وينستر راضيًا من ردّة فعله، وعبّر عن استيائه بحاجبين متدلّيين : " بالضبط، بروك سيكون حارسًا شخصيًا للآنسة، هل هذا منطقيّ ؟ فارس لم يقسم بعد، سيكون حارسًا شخصيًا ! "

بعد أن وصل إلى وجهته في يومين ونصف، وهي مسافة تستغرق ثلاثة أيام عادةً، تناول ديكين روميين بمفرده، ثمّ بدأ يشكو طويلاً وكأنه استعاد قوّته .

" لو كنتُ بروك، كنتُ سأحلق شاربي اللعين و آتي إلى هنا للتحقيق، على الرغم من أنه ليس جيدًا مثلي، إلا أن بروك شخصٌ ودود، لا بدّ أنه سيجلب بعض المعلومات ! "

" لهذا السبب أنت لستَ بروك، إذا تخلّى عن شاربه، فلن يكون بروك بعد الآن."

قاطعه سوبيل الذي أحضر شايًا جديدًا. أدرك وينستر فجأةً شيئًا، فغير الموضوع و راح يثير المشاكل مع هوارد .

" بالمناسبة، لماذا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً لإكمال المفاوضات، أيّها السير إنترفيلد ؟ "

في الواقع، كان من الطبيعي أن تستغرق المفاوضات وقتًا طويلاً . معدلات الضرائب على المعادن، و الوثائق السريّة. حتى أفضل المفاوضين كان سيحتاج أشهرًا لإنجازها، لكن هوارد عبّس حاجبيه بدلاً من أن يجيب .

" هل هناك سبب آخر ؟ "

شعر وينستر باليأس .

هل من الممكن أن الخطة قد فشلت ؟ هل وليّ العهد غبيٌّ لدرجة أنه لا يستطيع استخدام الوثائق السريّة ؟ أم أنه يماطل رغم أن ڤيكاندر لا تدفع الضرائب ؟

بينما كانت كلّ هذه الأفكار تسيطر على وينستر، اختار هوارد كلماته بعناية وفتح فمه ببطء .

" وليّ العهد … "

" وليّ العهد … ؟ "

كرّر وينستر كلماته، لكن هوارد لم يكمل جملته. كان وينستر قد نفد صبره، فاحتسى من الشاي الذي أصبح باردًا .

" … يتصرّف معي بودٍّ."

فجأةً ! بصق وينستر الشاي الذي كان يشربه بقوة .

* * * * * * * * * * * * * * * * * *

يومٌ مشرقٌ مُشمسٌ في شارع ليهرن في العاصمة .

كان الشارع الحيويّ مليئًا بالزهور العطرة و الشرائط. عند مداخل المحلات التجارية التي تستعدّ لـ "يوم الأب" القادم، كانت هناك ملصقات ترويجية مشرقة .

وعلى عكس ذلك، كان الطريق المؤدي إلى شارع إدينغتون كئيبًا للغاية .

بمجرد أن تدخله، تجد ممرّات مظلمة و كئيبة. إنه مثل مستنقع لا يمكنك الخروج منه، مليء بالماضي المنحطّ. لم يكن هناك أيّ أثر للحياة في هذا الشارع .

كان وينستر يرتدي قميصًا قديمًا و ممزّقًا، و حذاءً مهترئًا، و سروالاً مبقّعًا. كان يراقب الشارع بعيون حادّة تختلف تمامًا عن أيّ شخص آخر، ثمّ تذكّر فجأةً ما قاله له هوارد في الليلة السابقة .

" … لم أعلم أبدًا أن وليّ العهد شخصٌ مراوغٌ إلى هذا الحد، كنت أعتقد أنه يكشف عن نواياه دائمًا، لكن في الآونة الأخيرة، مهما قلت، يبتسم و يحاول تحديد موعد آخر للاجتماع."

لقد تغيّر وليّ العهد، وهذا التغيير كان مزعجًا لهذا الجانب . يجب أن أساعد هوارد بمجرد أن أنتهي من مهمّة الآنسة .

هزّ السير وينستر كالتر كتفه و ابتسم بخبث. وبينما كانت أشعة الشمس تغمره، تحوّل إلى شابٍّ عاديّ و ودود، ويبدو عليه الجوع .

" أنـ، أنا حقًا جائع، هل يمكنني المساعدة في أيّ عمل و الحصول على نصف رغيف خبز فقط ؟ "

الشخص الذي توسّل إليه هذا الشابّ الجائع كانت امرأة عجوز بدت أكبرهم سنًا في هذا الشارع. بعد أن نظرت إليه لفترة طويلة، أومأت العجوز برأسها ببطء .

" … ادخل، وجهك الذي لا يستطيع حتى الحصول على رغيف خبز، يشبه وجهًا أراه كلّ عام."

" أشخاصًا مثل وجهي كلّ عام ؟ هذا مستحيل، من أين يمكنك أن تجدي شخصًا وسيمًا مثلي، آآه ! "

بعد أن ضربته بعصا خشبية، أصبح الشابّ مهتمًا بقصة العجوز .

لم ترى شخصًا مثل هذا الشابّ منذ سنوات، الذي يستمع جيدًا لقصص العجوزة التي قضت كلّ حياتها في شارع إدينغتون. بينما كان يستمع ببريقٍ في عينيه، بدأ الشابّ يجمع المعلومات بشكل غير مباشر .

" كيف تعرفين كلّ هذه القصص ؟ إذًا هل تعرفينهم أيضًا ؟ لقد عاشوا هنا منذ زمنٍ طويل، عاشوا مع عجوز ذات عيون خضراء … "

****************************

*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم

اعلان