الفصل ١٢٦ : ‏Do Your Best to Regret

{ الرجل الذي لم يستيقظ أبدًا }


منزلٌ، أو ربما ملجأ .

ذلك المكان المجهول كان كوخًا كبيرًا .

" ألم أقل لكم ؟ لقد أتت أختٌ جميلة ! "

بمجرد أن فُتح الباب الخشبيّ الخشن، هرع الأطفال المتجمّعون أمام النافذة صوب المدخل. ومن بينهم، قامت تيبي الصغيرة التي رأتها قبل قليل، بتحريك ذراعيها بحماس لتعلن عن قدومها، ثمّ رفعت أنفها بكلّ فخرٍ أمام رفاقها الأربعة الآخرين في عمرها.

تمتم الطفل ذو الشعر الأحمر بوجهٍ مذعور : " أليست سيّدة من النبلاء ؟ "

" لا، لقد قالت إنها ليست كذلك."

بينما كانت أوليڤيا تستمع إلى أصوات الأطفال المرحة، نظرت حولها. على عكس الصغار الفضوليين، اختبأ الكبار خلف الأعمدة و الأبواب، ولم يرفعوا حذرهم. كان الأمر يشبه تمامًا يومها الأول في شارع "يينيڤ".

ابتسمت أوليڤيا للعيون التي كانت تتفحصها. في تلك الأثناء، ابتسم جيرون و صفّق بخفّة .

" إنها كاهنة، لا تقلقوا جميعًا."

صدح صوت جيرون الرقيق تحت السقف المقبّب. توقّف الناس عن الحركة عند سماع كلماته .

"كاهنة" ؟ لم يفهموا تمامًا ما تعنيه هذه الكلمة، ولكن من هيئتها النبيلة، لا بدّ أنها أرستقراطية. نبيلةٌ بعينين خضراوين … كاهنة ؟

اتسعت أعين الأطفال، و انهالت الأسئلة بسرعة : " أحقًا أنتِ كاهنة ؟ "

" ولكن ماذا تفعل الكاهنة ؟ "

" يا لك من أحمق ! إنها أعلى مرتبةً من الجدّ المعالج ! "

" توقّفوا ! "

بكلمة من جيرون، ابتسم الأطفال بخبث، وكأنها مزحةٌ اعتادوا عليها. عندما طلب منهم جيرون الخروج للعب في الخارج، صرف الأطفال فضولهم عن أوليڤيا، و هتفوا "وااااه !"، ثم خرجوا مسرعين .

" عُودوا إلى أعمالكم، سأقدّم للكاهنة منزلنا."

تجاهلت أوليڤيا نظرات الناس المتردّدة، و نظرت سرًا إلى الحجر السحري الذي كانت تُمسك به في يدها. كان يلمع بشكلٍ لم تره من قبل، مما يؤكّد وجود شيءٍ ما في هذا المكان .

وبمجرد أن تأكدت، شعرت بقلبها يخفق حماسًا. قامت أوليڤيا بتعديل صوتها .

" … منذ متى تعيش هنا يا جيرون ؟ "

" لقد استقررت هنا منذ حوالي أربعين عامًا، بعد انهيار لوڤيل قبل خمسين عامًا، ظللتُ أتنقّل من مكانٍ لآخر، حتى استطعتُ أخيرًا الاستقرار هنا."

مر الزمن على عينيه ذات اللون الأخضر الفاتح، وكأنه يستعرض ماضيًا بعيدًا .

ماذا تذكّر في تلك اللحظة العابرة خلف نظراته الشاردة ؟ لم تعرف، ولكن في تلك اللحظات، مر على وجه جيرون وجوهٌ مختلفة، من صبي يافعٍ يشعّ، إلى رجلٍ في منتصف العمر، ثم عجوز .

عندما عادت ابتسامته البطيئة التي ترتسم على زوايا عينيه، ليصبح جيرون من جديد الرجل العجوز في سنه الحالي، ضحك وهو يصفي حلقه بخفّة .

" لديّ الكثير من القصص القديمة، لذا يجب أن أُعدّها حتى موعد زيارتك القادمة، هل يمكنني أن أقدّم لكِ الشاي الذي أحبّه حينها ؟ "

" إذًا، في المرة القادمة سأُحضر معي حلوياتٍ تليق بالشاي، هل هؤلاء الأطفال و الناس الذين رأيتهم هم كلّ من يعيش هنا ؟ "

لا شكّ أن الحلويات المتنوّعة ستُذيب حذر الناس .

طرأت فكرةٌ مفاجئةٌ على بال أوليڤيا، فربما يوجد في يينيڤ شخصٌ مرّ بهذا المكان، ولكن قبل أن تتمكّن من السؤال، أشار جيرون إلى بابٍ مغلق .

" لا، هناك شخصٌ آخر في تلك الغرفة أيضًا، لكنه لم يستيقظ أبدًا منذ أن أتى إلى هنا."

" لم يستيقظ أبدًا ؟ "

تردّدت أوليڤيا قليلاً وهي تحاول فهم كلماته. في تلك الأثناء، انحنى جيرون باحترام .

" إذا لم يكن لديكِ مانع، هل يمكن للكاهنة أن تدعو له بالشفاء ؟ "

عندما أومأت أوليڤيا برأسها، ابتسم جيرون بوجهٍ مشرقٍ وكأنه كان يتوقّع ذلك، ثمّ اتجه نحو الباب المغلق. وعندما فُتح الباب، ضيّقت أوليڤيا عينيها مؤقتًا من وهج أشعة الشمس الساطعة .

كانت الغرفة الأكبر في هذا البيت، و الأكثر إشراقًا. هواءٌ منعشٌ يملأ الغرفة، و رائحة زهورٍ عذبة تملأ الأجواء .

كان صاحب الغرفة مستلقيًا على السرير. اقتربت أوليڤيا خطوةً أخرى بشكلٍ غريزيّ .

كان رجلاً بشعرٍ أبيض ناصع، يضاهي البياض الناعم للغطاء الذي يُعتنى به جيدًا . وُضعت قطعة قماشٍ سميكة على عينيه، مما جعل من الصعب تقدير عمره .

من التجاعيد الخفيفة على حواف فمه، هل يمكن أن يكون في نفس عمر الدوق مادلين ؟

" لقد قابلته بنفس الطريقة التي رأيتكِ بها، إنه أقدم شخصٍ عاش في هذا المنزل الذي بنيته، ولكني لم أستطع علاجه بقدراتي … "

تلاشى صوت جيرون. عند سماع كلماته، صلّت أوليڤيا بصدقٍ من أجل الرجل .

لم تكن تعرف من أين أتى، أو ما الذي حدث له، ولكنها كانت تتمنى حقًا أن يتحسّن و يستيقظ قريبًا .

" إذًا سأُوصلكِ إلى المدخل."

خرج جيرون من الغرفة أولاً. وبينما كانت أوليڤيا تتبعه، توقّفت للحظة، و نظرت إلى الرجل مرةً أخرى .

هل هو مجرّد وهم ؟ هل تحرّك طرف إصبع الرجل الذي لم يستيقظ أبدًا ؟

بينما كانت أوليڤيا تحدّق في أصابعه الموضوعة على اللحاف، شعرت بشيءٍ غريبٍ وكأنها رأت ذلك من قبل .

لقد بدت منطقة فم الرجل وكأنها مألوفةٌ لها .

— الصورة التوضيحية : هـنـا .

ربما، لو لم يكن شعره أبيض، بل أسود قاتم، لربما بدا شبيهًا بـإدوين …

" كاهنة ؟ "

" آه، حسنًا، لنذهب ! "

أجابت أوليڤيا بحيوية وهي تهزّ رأسها .

*

*

على الرغم من أنها طمأنته، قام جيرون بوضع قبّعته على رأسه بشكلٍ أكثر إحكامًا، وكأنها عادةٌ لديه. بل إنه بدا مندهشًا من أوليڤيا التي لا تُخفي شيئًا من نفسها .

" هل أصبح الجميع لا يُغطّي وجهه في هذه الأيام ؟ لم أنزل إلى القرية منذ فترة، وقد تفاجأت حقًا عندما رأيت الكاهنة سابقًا."

بينما كان الاثنان يمرّان بجانب البحيرة، بدأت أصوات ضحكات الأطفال تتلاشى تدريجيًا .

عندما بدأت نسمات الهواء الباردة تشتد، أدركت أوليڤيا مرة أخرى أنها في وادي "سينوا". كانت هناك بقع من الثلج لم تذب بعد .

" لا يزال هناك بعض الأشخاص يضعون القبعات لأنهم لم يعتادوا على الأمر بعد، ولكن الغالبية منهم يتجوّلون بحرية الآن."

سمعت صوت شهيق خفيف، و حركته التي توقّفت للحظات كانت دليلاً كافيًا على مدى دهشة جيرون .

لكن الوقت لا يزال مبكرًا للدهشة . أضافت أوليڤيا وكأن الأمر لا يستحق الذكر : " الأشخاص ذي العيون الخضراء، أي أفراد مملكة لوڤيل القديمة، لديهم شارع خاص بهم يعيشون فيه، الآن، هم يقيمون مؤقتًا في أماكن متفرّقة في إقليم ڤيكاندر، وذلك بسبب أعمال الترميم في الشارع."

" أفراد لوڤيل لديهم شارع خاص يعيشون فيه ؟ "

توقف جيرون عن المشي، وراح يتكلّم ببطء. لم تستطع أوليڤيا رؤية وجهه بوضوح، ولكنها فهمت تعابيره .

ابتسمت أوليڤيا وهي ترفع كتفيها : " نعم بالطبع."

" يا روينا … "

كان حقًا مؤمنًا و مخلصًا. خرجت كلماته كصيحة إعجاب، و صوته يرتعش. انتظرت أوليڤيا حتى ينتهي جيرون من ردّة فعله، ثم سألته بخفّة لتغيير الأجواء :

" كل أهل ڤيكاندر يعلمون بهذا الأمر، كم مضى عليك منذ آخر مرة نزلت فيها إلى المدينة ؟ "

" … أظنّ حوالي أربعة أشهر."

لم تكن فترة طويلة كما توقعت. لقد استقرّ شارع يينيڤ منذ بضع سنوات على الأقل. شعر جيرون بنظرات أوليڤيا، فأضاف على عجل :

" أحيانًا كنت أنزل إلى الحدود بدلاً من إقليم ڤيكاندر، كي لا يتذكرنا أحد هناك."

" …… "

" عندما كنت أذهب إلى إقليم ڤيكاندر، كنت أبيع الأعشاب و أشتري ما أحتاجه بسرعة، لم يكن هناك ما أتحدّث عنه، لذا كانت زياراتي قصيرة … لم أكن أعلم أنه سيحدث كلّ هذا."

عُقد لسان جيرون و ظلّ يحدّق في قدميه لفترة طويلة، ثمّ سعَلَ و عاد للتنفس، لكنّ أنفاسه التي امتلأت بها رئتاه فجأةً أطلقت سلسلة من السعال المذهول .

سألته الكاهنة إن كان بخير، لكنّ جيرون لم يفعل شيئًا سوى أن يرمش بعينيه .

على الرغم من أن ما سمعه كان من الكاهنة نفسها، إلا أنه لم يصدّق كلّ ما قيل له تمامًا. وبشكلٍ أدقّ، لم يستطع أن يصدّق .

لقد ظلّ يتجوّل وحيدًا لمدة عشر سنوات بعد سقوط مملكة لوڤيل. كان جيرون يعرف جيدًا كيف كانت نظرات الناس تجاه أهل لوڤيل خلال تلك السنوات .

فهل يُعقل أن تتغيّر تلك النظرة ؟ وأن يتمّ إنشاء شارع خاص بهم، بل وأن يعيشوا مختلطين مع الآخرين ؟

" أوليڤياااا !! "

في تلك اللحظة .

توقّف كلّ من جيرون و أوليڤيا فجأةً عندما اخترق صوت حادّ الهواء .

ظهر إدوين من العدم، وقد ارتسم على وجهه الشاحب خوفٌ شديد .

" إدو …… "

في اللحظة التي التقت فيها نظراتهما، اندفع إدوين نحوها على الفور و عانقها بقوة. كان ظهره يرتجف .

" حقًا، ظننت أنني سأفقدك … "

همس إدوين بصوتٍ منخفضٍ و مرتعشٍ بجوار أذنها. عند سماع هذه الكلمات التي لا يمكن حتى تخيُّلها، عضّت أوليڤيا شفتها. لقد كان تفكيرها قصيرًا .

" أنا آسفة."

كان ينبغي عليها أن تظهر له نفسها أولاً، حتى لو قيل لها إنّ من يمتلك دماء لوڤيل يمكنه أن يشعر بسلامتها .

هل هو بسبب الدفء الذي يتصلّان به، أم بسبب الشعور بالارتياح ؟ بدأت يدي إدوين الباردتان تستعيدان دفئهما تدريجيًا .

أبعد إدوين أوليڤيا عنه ببطء، و نظر إلى وجهها. استعادت عيناه البيضاوان اللتان كانتا مشوشتين، تركيزهما ببطء .

بعد أن أخرج أنفاسًا متقطّعةً عدة مرات، قام إدوين بتمرير يده على خدّ أوليڤيا ببطء : " … هل أنتِ مصابة في أيّ مكان ؟ "

" لا، أنا بخير ! أنا بخير حقًا ! "

ابتسمت أوليڤيا بخجل و سحبت يد إدوين لتعيد وضعها على خدّها. كان ذلك الدفء المألوف ثمينًا للغاية .

في تلك اللحظة، تذكّر إدوين أفراد عائلته الذين فارقوا الحياة و تركوه وحيدًا، و تذكّر أيضًا الفراغ الذي كان يزداد برودة مع كل لحظة. إدراكه أنه كاد يفقد هذا الدفء أيضًا، أرسل قشعريرة في جسده .

أهمّ شيء لديه الآن هو أوليڤيا، وليس الأسرار التي لم يتمّ كشفها بعد .

" … ليڤ."

من أين يبدأ ؟ في تلك الأثناء، تنهّد إدوين و مرّر يده على وجهه المتعب .

" أحيي ولي العهد الملكي."

من الواضح أن التحية كانت موجّهةً إلى إدوين نفسه. كان هناك رجلٌ عجوز يرتدي معطفًا سميكًا يقدّم التحية لإدوين بصوتٍ مرتعش .

" أنا جيرون، خادم روينا المخلص، أتشرف بلقاء وليّ العهد."

أنهى جيرون تعريفه بنفسه وهو يخلع قبعته على عجلٍ، و يحاول تهدئة أنفاسه المرتعشة . كان الرجل الوسيم ينضح بوضوحٍ بهالة العائلة الملكية لوڤيل .

الرجل وريث العائلة الملكية، و المرأة وريثة عائلة الكهنة. لم يستطع جيرون السيطرة على مشاعره الغامرة .

" يا روينا … إذًا كان هذا هو السبب الذي أبقيتني على قيد الحياة من أجله … "

" آه، يا إدوين، هذا هو جيرون، إنه المعالج الذي أنقذني، وهو أيضًا … "

" آآنـسـتـي !! "

غطّى صوتٌ عالٍ كلمات الكاهنة. نظر جيرون إلى مصدر الأصوات و صُدم مرة أخرى .

" يا للراحة، هل أنتِ بخير ؟ هل أنتِ مصابة في أيّ مكان ؟ حقًا، شعرت بأن قلبي سيسقط من الخوف، ولكن لحسن الحظ، كانت هناك هالة ودودة تحيط بالآنسة …! "

غطّت الساحرة فمها بدهشة، و عيناها الزرقاوان الشاحبتان تتّسعان .

" يا إلهي."

" ……! "

" أأنت حقًا من أهل لوڤيل ؟ في وادي سينوا … من لوڤيل ؟ "

" أنا جيرون، خادم روينا، هل أنت ساحرة وليّ العهد …؟ "

تجمدت الساحرة، و راحت ترمش بعينيها فقط .

كان الفارس ذو الشعر الأحمر و الفارس ذو الشارب قادمين أيضًا. كاد جيرون أن ينكمش على نفسه غريزيًا، لكنه توقف .

النظرات التي كانوا يرمقونه بها لم تكن تحمل أيّ ازدراء. بل على العكس، كانت تحمل شعورًا بالانتماء، أو ما هو أكثر من ذلك .

الأمل الذي كان جيرون يضطرّ إلى كبته في كلّ مرة، عاد ليشتعل في قلبه مرة أخرى .

إذا كان كلام الكاهنة صحيحًا، فربما يستطيع جميع من في الكوخ الذي يسمّونه "المنزل" العودة إلى العالم مجددًا .

كانت بيثاني و ديان أيضًا غارقين في المشاعر . أن يكون هناك حقًا شخص من لوڤيل في وادي سينوا، و شخصٌ يبدو ملمًّا بأمور لوڤيل لدرجة أنه ينادي الدوق الأكبر بوليّ العهد .

من المؤكد أن هذا الرجل العجوز قد يحلّ الأسرار التي لم يستطيعوا حلّها حتى الآن. كان الجميع صامتًا، يتبادلون توقّعاتهم المختلفة .

" أيّها السير دروين."

" نعم، يا سموّك."

" سنستعد للعودة فورًا، أرسلوا شخصًا إلى القلعة مسبقًا ليُعدّوا مكانًا لفحص الآنسة."

" إدوين ؟ "

لقد أخبرته أنها بخير، لكن تعابير وجه إدوين لم تكن طبيعية. نادت أوليڤيا عليه بحذر. في العادة، كان يجيبها فورًا، ولكنه هذه المرة نظر إليها مباشرة وقال :

" وفي وادي سينوا … "

" …… "

" لا يوجد ما يمكن التحقق منه أكثر، فلننسحب الآن."

****************************

*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم

اعلان