" هل أنتِ بخير ؟ "
قد يكون عمرها خمس أو ست سنوات. كان شعرها أشقر و عيناها بلون أخضر زمردي عميق، وكأنها طفلة من "يينيف".
الفرق الوحيد هو …
" نعم، شكرًا لكِ."
أنها لم تشعر بالخوف منها .
الطفلة التي كانت تتردد و تحافظ على مسافة مناسبة، اقتربت على الفور بعد أن سمعت الكلمات الدافئة .
و راحت تتحدث بفضول وهي تنظر إلى أوليڤيا : " أنتِ جميلة يا أختي، هل أنتِ نبيلة ؟ لقد قالوا لي إن السيدات النبيلات فقط يرتدين مثل هذه الملابس."
كانت الطفلة لا تخجل أبدًا، على الرغم من أنها تسأل عما إذا كانت أوليڤيا نبيلة .
عندما ابتسمت أوليڤيا دون إجابة، فهمت الطفلة الأمر على طريقتها و راحت تبتسم و تخبر أوليڤيا بقصص لم تُسأل عنها.
" هل يمكنني أن ألمسك ؟ في الحقيقة، إذا جئت إلى البحيرة وحدي، سأُوبخ، لكن جدي لم يستيقظ منذ عدة أيام، و أردت أن أحضر له زهورًا، ما هي أجمل زهرة في رأيك يا أختي ؟ "
كانت الزهور التي قدمتها الطفلة تفوح منها رائحة قوية. أجابت أوليڤيا بغموض : " جميعها جميلة … "
" صحيح ؟ جدي كان يحب الزهور الحمراء أكثر شيء، وهذه هي أحمر زهرة هنا."
تحدثت الطفلة بحماس عن جمال الزهور. بينما كانت أوليڤيا تستمع، كانت تتأمل ببطء في هذا الوضع الذي لا يصدق .
كان المكان هادئًا وكأنه عالم آخر، و الزهور و الأشجار الجميلة تزدهر فيه كما في الربيع. على عكس وادي سينوا المتجمد و الأبيض، كانت السماء صافية، وكان هناك جدول يتدفق .
فجأة، شعرت أوليڤيا أن يدها التي كانت تلمس العشب الناعم كانت غير مرتاحة . ومن الغريب أنها لم تلاحظ ذلك من قبل، لكن الحجر السحري في عقدها كان يضيء بضوء أخضر داخل قبضتها المغلقة بإحكام .
' لحسن الحظ، أمسكت بالعقد.'
بمجرد أن أدركت الواقع، بدأ جسد أوليڤيا يرتجف . شعرت بقشعريرة في كل جسدها من الإحساس بالدوّار الذي انتابها عندما كانت تسقط من الهاوية التي لا نهاية لها.
شعرت وكأن الرياح العاتية تمر عبر جسدها مرة أخرى، و شعرت بالغثيان. وضعت أوليڤيا يدها على الأرض و راحت تتقيأ .
" هل أنتِ بخير ؟ "
كان صوت الطفلة التي تسأل بقلق يبدو وكأنه يقترب و يبتعد. عندما هدأت معدتها، أومأت أوليڤيا برأسها بابتسامة ضعيفة .
كانت أطراف أصابعها لا تزال ترتجف قليلاً، لكن شعورها بالراحة لكونها على قيد الحياة كان أقوى .
في الوقت نفسه، تذكرت آخر ملامح وجه إدوين. عيناه الحمراوان اللتان كانتا تملؤهما الرعب، و اسمها الذي ناداه وكأنه يتقيأ دمًا .
سقط قلبها فجأة، وشعرت بوخز مؤلم في صدرها .
حركت أوليڤيا شفتيها وسألت بحذر : " … أين أنا ؟ "
أين هذا المكان حقًا ؟
الشيء الوحيد المشترك بين هذا المكان و وادي سينوا هو الجليد الأبيض الرقيق الذي يغطي الجدول الواسع الذي يشبه البحيرة .
" هنا …… "
تمنت لو أن الطفلة ذكرت اسمًا لوادي سينوا، أو أي مكان آخر في أراضي ڤيكاندر. بل حتى أي مكان في الإمبراطورية تعرفه .
" … أين هذا المكان ؟ "
توقفت الطفلة عن الإجابة ومالت رأسها. وسط التوتر الذي كاد أن يفجر قلبها، ابتسمت الطفلة ببراءة.
" لا أعلم، إنه مجرد منزل ! أبي يقول إنه ملجأ، لكنني أسميه منزلاً."
أصيبت أوليڤيا بخيبة أمل من إجابة الطفلة البسيطة التي لم ترغب في التفكير أكثر، لكنها سألت بهدوء ولطف أكبر :
" اسم، أو أي شيء آخر، حسنًا، عندما أتيتِ إلى هنا، ماذا قيل لكِ ؟ من يعيش هنا، أو كيف جئتِ ؟ "
" ليس لهذا المكان اسم ! ولهذا كان الأمر صعبًا عليّ وعلى أبي عندما جئنا إلى هنا."
مكان بلا اسم ! شعر أوليڤيا باليأس، لكنها حاولت أن تتمسك بالأمل و راحت تفرك عقد الحجر السحري بقوة .
قيل إن هناك العديد من الأماكن التي ليس لها اسم في الأماكن النائية. أيًا كان هذا المكان …
" إذن، والدكِ …… "
" ألم تأتِ إلى هنا لأنكِ قُدّتِ إليه أيضًا ؟ "
غطى صوت الطفلة المبهج على صوت أوليڤيا. رمشت أوليڤيا في صمت، لقد كانت تحاول الحصول على مساعدة من شخص بالغ .
'مُقادة؟' لم تفهم أوليڤيا ما قصدته الطفلة، لكن قلبها بدأ ينبض بقوة. شعور ما دفعها .
هل يمكن أن يكون هذا هو المكان الذي قال ديان أنه رأى فيه الدخان ؟
حتى في هذا الوضع الحرج، فكرت في كشف سر الوادي. ابتسمت أوليڤيا بخفة وهي تنظر إلى عقد الحجر السحري، ثم تجمدت تعابير وجهها قليلاً .
وكأن الحجر السحري كان يؤكد كلماتها، بدأ يضيء و يومض بقوة .
فجأة، عبست الطفلة و تذمرت : " أنتِ أتيتِ بسهولة أكبر بكثير، أليس كذلك يا أختي ؟ أنا وأبي شعرنا بالبرد حقًا، كان هناك الكثير من الثلج."
' ثلج؟' كانت هذه ميزة وادي سينوا. شعرت أوليڤيا بغصة في حلقها من السعادة. استمرت الطفلة في وصف اليوم الذي جاءت فيه إلى هذا المكان .
" لو لم يظهر الطبيب العجوز في ذلك الوقت، لكان الجو باردًا جدًا، لقد تجمدت قدماي تمامًا، آآه ! إنه الطبيب العجوز ! "
توقفت الطفلة فجأة عن الكلام و نهضت و لوحت بيديها بقوة خلف أوليڤيا. من بعيد، كان رجل عجوز ذو شعر أبيض تمامًا يقترب .
كان يمشي ببطء مستندًا على عصا منحنية .
" آه، سأُوبخ إذا علم أنني جئت إلى هنا وحدي."
وكأنها أدركت الأمر للتو، اختبأت الطفلة خلف أوليڤيا.
هل يمكن أن يكون هذا الرجل العجوز هو الشخص الذي يمكن أن يشرح لها هذا المكان ؟
بينما كانت أوليڤيا تستعد للنهوض بأمل، سمعت صوت الرجل العجوز. كان صوتًا متقدمًا في السن، لكنه يحمل قوة .
" تيبي، لماذا جئتِ إلى هنا وحدك ؟ ومن هذه …… "
في اللحظة التي التقيا فيها بالعين، أدركت أوليڤيا أن حدسها كان صحيحًا .
كانت عينا الرجل العجوز بلون أخضر مشابه لعيونها. وكأنه أدرك ذلك أيضًا، توقف كلام الرجل العجوز فجأة .
بدأ الدم يختفي من وجهه. وفي لحظة، بدأ الرجل الذي كان يستند على عصاه يرتجف .
" جدي ! "
هرعت الطفلة لمساعدة الرجل العجوز. وعلى الرغم من أنه كان يمسك بيد الطفلة، إلا أن نظره لم يفارق أوليڤيا.
حرك الرجل العجوز شفتيه عدة مرات، ثم سأل بصعوبة : " … هل أنتِ الكاهنة ؟ "
'كاهنة'. 'كاهنة نبيلة'. كانت هذه الكلمات قد سمعتها من بيثاني.
بدلاً من الإجابة، نظرت أوليڤيا إلى الرجل العجوز. كان قلبها ينبض بشدة. لم تستطع أن تصدق أن القصة التي أرادت معرفتها قد اقتربت بهذه الطريقة .
بعد ذلك، انحنى الرجل العجوز .
" أنا جيرون، الخادم المتواضع لروينا، أخيـ، أخيرًا … أقابلك أيتها الكاهنة."
ارتجف صوته الأجش، كما لو كان سيبكي .
بدا وكأن أمنية قديمة كانت في صوته قد وصلت إلى أوليڤيا و ذابت في قلبها .
*
*
" إذن، سأذهب لرؤية جدي ! "
وكأنها أدركت الوضع، ركضت الطفلة "تيبي" بعيدًا.
بعد أن اختفت من خلف التل، بدأ الرجل العجوز الذي لم يستطع الكلام لفترة طويلة بالحديث المتقطع :
" … طوال حياتي، لم أتوقع أن أرى الكاهنة مرة أخرى، لقد كنت أتمنى ذلك بشكل غامض فقط."
احمرّت عيناه وكأنه غارق في الندم. سألته أوليڤيا وكأنها تتمتم : " … هل أنا كاهنة ؟ "
" هاتان العينان الخضراوان الناصعتان هما بالتأكيد علامة أعطتها روينا للكاهنة."
ظهرت كلمة جديدة في حديثه الحاسم . "روينا". هل لها علاقة بـ"لوڤيل" ؟ لكن قبل أن تسأل، عاد الرجل العجوز للحديث بصوت مليء بالحماس و الارتجاف :
" كيف أتيتِ إلى هنا، لا … هل شعرتِ حقًا بهذا المكان وجئتِ ؟ "
" أنا … لقد سقطت إلى هنا بالصدفة، عقدي سقط من على الهاوية."
مدت أوليڤيا يدها بحذر. عندما رأى الرجل العجوز الحجر السحري اللامع، صُدم كما صُدم عندما رأى أوليڤيا للمرة الأولى .
" هذا …! "
" هل تعرف شيئًا عن هذا العقد ؟ "
" … آخر مرة رأيتُ فيها هذا الشيء كانت منذ أكثر من خمسين عامًا، لكني أتذكره جيدًا، إنه مفتاح يُستخدم في الطقوس."
أكثر من خمسين عامًا، مفتاح، روينا، كاهنة . هذه الكلمات التي لم تترابط جيدًا كانت تحوم في ذهن أوليڤيا.
" لدي الكثير من الأسئلة، يا جدي … "
مالت أوليڤيا لتسأله عما تناديه، لكن الرجل العجوز فزع و لوّح بيديه .
" أنا جيرون، لا تكوني متواضعة يا كاهنة، أنا مجرد معالج يخدم روينا و أتبع الكاهنة."
بدت تصرفاته التي تظهر ارتباكه مألوفة، فقد كانت تشبه تصرفات بيثاني. ظهر الذهول في عينيه العجوزتين. نظرت أوليڤيا إلى جيرون ثم أومأت برأسها.
" لكن قبل كل أسئلتي، لديّ رفاق معي، أريد أن أخبرهم بأنني بخير."
" … هل رفاقكِ من نسل لوڤيل أيضًا ؟ "
من نسل لوڤيل ؟
ديان، بيثاني، و … إدوين أيضًا.
أومأت أوليڤيا برأسها. ابتسم جيرون، وكانت التجاعيد التي نحتها الزمن على وجهه قد شكلت ابتسامة طبيعية .
" إذًا لابد أنهم شعروا بذلك، شعروا أن الكاهنة بخير."
'يشعرون؟' كانت الطفلة والآن جيرون أيضًا، يتحدثون بكلماتٍ غامضة .
هل هناك إشارة ما يتشاركها نسل لوڤيل ؟
" ومع ذلك، بما أنكِ ستعودين، سأوصلكِ إلى المكان القريب من رفاقكِ، من فضلكِ، زوري هذا المكان مرة أخرى."
بعد أن أوصاها جيرون بذلك بشدة، تذكر شيئًا و رفع يده .
" أوه، لقد كنتُ في عجلةٍ من أمري لدرجة أنني لم أحضر حتى غطاءً، هل يمكنكِ الانتظار لحظةً من فضلك ؟ "
لم تكن أوليڤيا تعرف ما الذي يريد أن يخفيه، لكنها أومأت برأسها. توقف جيرون الذي كان يمشي بجد، و التفت إلى أوليڤيا.
" … هل أنتِ بخير يا كاهنة إذا لم تتخفي ؟ "
سألت أوليڤيا التي لم تفهم ما يقصده : " ماذا ؟ "
" ذلك … أليس العالم الخارجي خطيرًا حتى الآن ؟ "
من تردده في الكلام، أدركت أوليڤيا على الفور كم من الوقت لم يغادر جيرون هذا المكان .
بماذا تبدأ الكلام ؟ هل لا يزال هناك الكثير من الأشخاص مثله ؟
كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها هذا الواقع المؤلم. شعرت بحرارة في كف يدها، فرفعت عقد الحجر السحري مرة أخرى.
كان الضوء اللامع بشكل خاص يشبه الضوء الذي أنار غرفتها الليلة الماضية. نظرت أوليڤيا إلى الاتجاه الذي كان يشير إليه الضوء.
كان نفس الاتجاه الذي ركضت إليه الطفلة .
" عفواً، هل هناك أي شيء في ذلك الاتجاه ؟ "
" هناك منزل أعتني به، إنه مكان يقيم فيه نسل لوڤيل الذين لا مأوى لهم، إذا أردتِ، هل ترغبين في رؤيته الآن ؟ "
كان عقد الحجر السحري يلمع بحرارة في يدها، وكأنه يريد أن يتناغم مع شيء ما، انتشرت طاقة نابضة في كفها.
لم تكن تعلم ما الذي يوجد هناك، لكن عقد الحجر السحري كان يريد بشدة أن تذهب أوليڤيا في ذلك الاتجاه.
أومأت أوليڤيا برأسها .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
" لا يا صاحب السمو ! "
صرخ بروك بشدة. كان إمساكه بالدوق الأكبر رغم حركاته العنيفة التي تشبه وحشًا ثائرًا أشبه بمعجزة .
لقد أمسك بدوق كان يمكنه التخلص منه في لحظة، لكن قبل أن يتنهد الصعداء، تراجع بروك إلى الوراء عندما رأى وجه الدوق الأكبر .
كان وجهه شاحبًا لدرجة أن مجرد النظر إليه كان يجعله يختنق . لم يرى من قبل هذا الوجه المليء بالخوف، و هاتين العينين الحمراوين اللتين كانتا تغرقان ببطء، حتى في أشد الحروب ضراوة .
كان الدوق الأكبر يحتضر شيئًا فشيئًا. تمامًا كشخص فقد كل شيء، حتى كثافة الهواء كانت ثقيلة .
حدّق إدوين في الهاوية بعينين غائمتين، و تحت الهاوية الوعرة التي لا نهاية لها، كان اسم أوليڤيا الذي ناداه يتردد صداه وكأنه في كهف .
كان الهواء البارد يخنقه لدرجة أنه لم يستطع التنفس بشكل صحيح. كان كل ما يملأ عقل إدوين هو وجه أوليڤيا في لحظتها الأخيرة وهي تسقط .
لقد كانت تبتسم رغم خوفها. عندما انقطع شيء ما في عقل إدوين، كان على وشك القفز للهاوية دون تردد .
" شعرت بقوة سحرية ! شعرت بقوة سحرية، يا صاحب السمو ! "
كانت صرخة بيثاني أسرع قليلاً من محاولة إدوين للقفز مرة أخرى. نظرت بيثاني إلى عيني الدوق الأكبر، و أومأت برأسها بسرعة .
في اللحظة التي سقطت فيها الآنسة، حاولت بيثاني أن تلقي عليها تعويذة بشكل غريزي، لكن قوة سحرية أقوى منعتها .
كانت هذه القوة بالتأكيد …
" كانت قوة موالية للآنسة ! "
ديان، الذي كان يشد على أسنانه، شد قبضته و فكها، و أيد بيثاني بصوت مرتعش .
" بالتأكيد، الآنسة بخير."
" … أين المكان الذي شعرتما فيه بالقوة السحرية ؟ "
بسبب الخوف الواضح الذي ينبعث من عواطفها المكبوتة، أغمضت بيثاني عينيها و توقفت عن الكلام للحظة .
ومع كلمة بيثاني هذه، بدأ الخوف الذي كان يسيطر على إدوين يتبدد، تمامًا مثل الغشاوة التي كانت تغطي عينيه .
شعر بعقله يعود إليه، فشد إدوين قبضته أيضًا. في تلك اللحظة، شعر هو أيضًا بقوة غريبة .
شعور نقي و لطيف … وعندما نظر إلى المكان الذي كانت تتدفق منه تلك القوة …
" هناك، في ذلك الاتجاه ! "
" أعتقد أنه ذلك الاتجاه."
في نفس الوقت تقريبًا، أشارت بيثاني و ديان إلى مكان واحد. اتسعت عينا بروك عندما رأى الثلاثة يشيرون إلى نفس المكان، بمن فيهم إدوين .
" هل أنا الوحيد الذي لا يشعر بأي شيء الآن ؟ "
تجاهل إدوين صوت بروك المتمتم و هرع إلى ذلك المكان .
على الرغم من أن لا أحد أخبره بالاتجاه الصحيح، إلا أنه كان هناك هدف واضح شعر به، فراح يركض حتى كاد أن ينقطع نفسه .
في نهاية هذا الطريق، لا بد أن تكون أوليڤيا موجودة .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
****************************