في غرفة استقبال الدوق مادلين .
تلاشت آخر خيوط البخار المتصاعد من فناجين الشاي الساخنة. سكون مطبق خيّم على المكان، فلم ينطق أحد بكلمة، لا جايد ولا كونراد ولا حتى الدوق .
كسر الدوق الصمت الطويل الذي كان خانقًا، وقال بصوت خفيض يكسوه وقار مهيب : " … ماذا كنت تفكر لتفعل ذلك ؟ "
لكن جايد الذي كان يحدق في فنجان الشاي لم يدر رأسه. كان نصف وجهه الظاهر بلا تعابير .
" جايد مادلين "
" …… "
" تحملي لك يتجاوز الحد الآن يا بني "
ارتجف كتف جايد بخفة، و كبت الدوق غضبه الذي كان يغلي بصعوبة، و تحدث عن الوضع الحالي : " بما أنك أصررت على العودة إلى هنا، كان عليك أن تأتي مستعدًا، لا أن تجمع أفكارك الآن، عليك أن تقدم تفسيرًا واضحًا لأفعالك، و حلولاً لهذه للمشكلة "
كان جايد هو من طلب العودة إلى القصر، وهو من أصر على أن يكون الحديث في غرفة استقبال الدوق الخاص. وافق الدوق على طلبه لأنه اعتقد أن جايد أصبح رجلاً يتحمل مسؤولية أفعاله.
لذلك، قال الدوق لجايد بنبرة حاسمة : " … هذا ما يجب عليك فعله الآن كفرد من عائلة مادلين "
عندها فقط، رفع جايد رأسه ببطء . كان ضوء القمر المتسلل من النافذة يلقي بظلاله على وجهه، فظهرت للحظة ملامح طفولية عابرة على وجه الرجل الناضج. رمش الدوق بعينيه، فمظهر الطفل الذي كان على وشك البكاء اختفت في لمح البصر .
لابد أنه رأى بشكل خاطئ .
" سأسألك مرة أخرى، ماذا كنت تفكر لتفعل ذلك ؟ "
" كنت أحاول إنقاذ ما تبقى من كبرياء عائلة مادلين "
" ماذا ؟ "
كانت إجابة لا قيمة لها لدرجة أنها أهدرت كل الوقت الذي انتظره الدوق. أصبحت عينا الدوق، اللتان كانتا هادئتين، أكثر حدة .
" أن تهاجم الأميرة، أمام وفد دبلوماسي، وأنت فرد من عائلة زعيم الفصيل الإمبراطوري … هل هذا هو كبرياء عائلة مادلين ؟ "
أصبح صوته الهادئ أكثر برودة. حدّق الدوق بعينين حادتين في ابنه الذي يشبهه. على الأقل، كان يعتقد أن ابنه فكر في شيء قبل أن يهاجم الأميرة، ولكن …
" هل كسبت الوقت للوصول إلى القصر و غرفة الاستقبال لتقدم لي هذه الإجابة السخيفة ؟ "
ملأ فمه المغلق بإحساس عميق بخيبة الأمل .
أبناؤه الذين لطالما افتخر بهم، كانوا يتصرفون بشكل يخيب آماله واحدًا تلو الآخر … لماذا ؟ ما الذي تغير ؟
أغمض الدوق عينيه و حاول ترتيب أفكاره المضطربة. ما هو سبب تغير أبنائه ؟ ومن المثير للسخرية، أن شخصًا واحدًا فقط خطر على بال الدوق : تلك الفتاة، تلك التي يعلق اسمها في حلقه .
عندما فتح عينيه ببطء، قال جايد بصوت خالٍ من العواطف : " ما أردت أن أقوله في غرفة الاستقبال هذه ليس حلاً أو طلبًا للمغفرة "
وكأنه قد حسم أمره، رفع رأسه و نظر ببطء في أرجاء الغرفة، بينما أكمل بصوت خالي من المشاعر .
" أردت فقط أن أرى غرفة الاستقبال هذه مرة أخرى "
" …… "
" لأنني أحبك و أحترمك يا أبي "
لم تكن هذه الكلمات غريبة، فجايد كان يقولها في "عيد الأب" كل عام بخجل، لكن هذه المرة، كان صوت ابنه الثاني يتقطع .
تملك الدوق شعور غريب بعدم الارتياح. لم يكن جايد ينظر إليه، بل كان يحدق في اللوحة فوق المدفأة. كانت اللوحة كما هي منذ 14 عامًا، قبل أن تبدأ التعاسة. كانت لوحة لجميع أفراد العائلة في زمن كانت فيه هيزل على قيد الحياة .
في تلك اللحظة، مرت على عيني الدوق الباردتين موجة من الألم الشديد. كان يدرك أن تلك الأيام لن تعود، و ندمه على تلك اللحظات الضائعة جعله يكره شخصًا ما بشكل تلقائي .
لو لم تكن تلك الفتاة موجودة، لكانت تلك الأيام قد استمرت .
بينما كان الدوق يحدق في اللوحة، أضاف جايد بصوت منخفض : " … أردت أن أرى هذا المكان المثير للغثيان مرة أخرى "
رمش الدوق بصدمة . كان هذا المكان أغلى مكان على قلبه، لم يكن جايد ليجهل ذلك … لذا كيف يجرؤ على إهانة هذا المكان ؟
" جايد مادلين ! "
" في طفولتي، كنت أعتقد أن دخولي إلى هذا المكان امتياز "
" …… "
" لأن أوليڤيا لم يكن مسموحًا لها بالدخول "
عند سماع اسم أوليڤيا، قبض الدوق على مسند الكرسي بقوة. من الواضح أن سبب كل المشاكل هي تلك الفتاة .
" لذلك، في كل مرة كنت أشعر بالكراهية تجاهها، كنت آتي إلى هذا المكان أكثر، أنت تعلم، أليس كذلك ؟ "
حدق جايد في الباب للحظة . تخيل مظهر أوليڤيا أمامه كشبح، وهي تقف خلف الباب بعينين حاسدتين. وكان جايد يغلق الباب بصوت عالٍ عمدًا حتى تسمعه، وكأن هذا الباب هو خط يفصل عائلته عن أوليڤيا .
" … ظننتُ أن أمي مخطئة عندما قالت أنها أختي "
حدق الدوق في جايد بذهول، لكن وجه جايد لم يكن واضحًا، بل كان صوت هيزل فقط يتردد في أذنيه : " … تلك الفتاة، بصفتها أخت كونراد و جايد الصغرى، و بصفتها أخت إيسيلا الكبرى، يجب أن تُعامل معاملة مماثلة لأطفالي "
" … أنا أيضًا، لم أعتقد يومًا أنها مثلكم "
كانت الكلمات التي نطق بها الدوق بصوت مخنوق نفس الكلمات التي قالها لهيزل في الماضي. عند سماعها، نهض جايد من مكانه، و ضحك بمرارة .
" بالتأكيد، لهذا السبب أنا، و أخي، وأنت …… "
كان وجه جايد مضطربًا وكأنه على وشك البكاء .
" … لم نشعر بالغرابة في هذا المكان "
مع صوت جايد الحزين، تردد صدى صوت هيزل، و خفض الدوق رأسه دون أن يُدرك ذلك .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
وبعد لحظات، ساد الصمت غرفة الاستقبال مع صوت إغلاق الباب .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
كان القمر مرتفعًا على غير العادة تلك الليلة .
تلاشى صوت حوافر الخيل المبتعدة. في الوقت نفسه، سُمع صوت طرق على الباب. عندما أذن الدوق بالدخول، اعتقد بالطبع أنه كونراد .
" يا سيدي الدوق، هناك شخص من القصر الإمبراطوري، لقد أمر جلالته بالدخول الفوري، وهذا، رسالة من الماركيز ليبرون "
لكن من دخل كان الخادم. بينما كان الخادم ذو الوجه الحائر يقدم الرسالة، كان خادم القصر الإمبراطوري ظاهرًا من خلال الباب المفتوح .
كان هذا أمرًا طبيعيًا. سيطلب الإمبراطور ولاءه مرة أخرى، و النبلاء الموالون للإمبراطور، الذين يرأسهم، سيطالبونه بالبحث عن نوايا جايد و تقديم حل للوضع. بدلاً من أخذ الرسالة أو الإجابة، حدّق الدوق في اللوحة داخل الغرفة .
لاحظ الخادم حساسية الدوق غير المعتادة . الدوق، الذي ينهض عادة فورًا عند أمر الإمبراطور، يبدو اليوم فارغًا … هز الخادم رأسه عند الفكرة التي خطرت له .
" … أين كونراد و جايد ؟ "
ولكن عندما سُمع السؤال الهادئ، لم يستطع الخادم إخفاء دهشته. كيف يتحدث عن أمور أخرى بينما خادم الإمبراطور يلح على ذهابه للقصر ؟ هذا أمر غير مسبوق .
حدّقت عينا الدوق اللتان كانتا أعمق من المعتاد في الخادم. أجاب الخادم بصوت متقطع لا شعوريًا : " الـ، الدوق الشاب في مكتبه، و غادر السيد الشاب الثاني قبل قليل "
تحركت شفتا الدوق للحظة. من خلال تنفسه الضحل، ظن أنه سمع كلمة "إيسيلا"، لكنه لم ينطقها بصوت عالٍ .
لعدم اختفاء الشعور بالغرابة، تجرأ الخادم للمرة الأولى على ذكر مكان الآنسة أولاً : " … الآنسة إيسيلا في غرفتها "
نظر الدوق إلى الخادم للحظة. خفض الخادم رأسه لا إراديًا، و خوفًا مما قد يقول، أعاد الخادم تقديم الرسالة على الصينية .
" سيدي، الرسالة …… "
" … ضعها هناك و اخرج للحظة "
" … حسنًا "
خرج الخادم من الغرفة بأقل قدر ممكن من الضوضاء. اتسعت عينا خادم القصر الإمبراطوري الذي كان يقلب قدميه .
" هل حدث شيء للدوق ؟ في العادة، كان سيغادر على الفور "
ثم تذكر الخادم واجبه و تذمر. طلب منه أن يطلب الدخول مرة أخرى، لكن الخادم تجاهله، و حدّق في الباب المغلق بإحكام .
كما تظاهر بعدم سماع تنهيدة خفيفة عند مغادرته للتو .
*
*
ساد الصمت غرفة الاستقبال .
ابتلع الدوق جيوفاني ريقه للحظة . في صمت هادئ، كان جيوفاني يشعر وكأن فراغًا مظلمًا يسيطر على داخله .
لا يجب أن يكون لديه هذا الشعور بالفراغ. فقد كان لديه كل شيء، لقد حما عائلته و شرف عائلته .
ابتسم جيوفاني بمرارة، ثم أطلق أنينًا. سواء بسبب أفكاره المتشابكة، أو لأنه كان غاضبًا لدرجة أن عروقه كانت بارزة، سيطر عليه صداع شديد. كان الجزء الخلفي من رقبته ينبض بشكل غير منتظم .
رفع جيوفاني فنجان الشاي من على الطاولة بيدين مرتعشتين . كان للشاي البارد طعمٌ سيء . كان يأمل أن يختفي الصداع إذا شرب الشاي، لكن عندما نظر إلى الداخل، كان لون الماء داخل الكوب أخضر باهتًا .
" آه … "
أطلق جيوفاني أنينًا خافتًا. عند رؤية الشاي الأخضر، تذكر عينين خضراوين كانتا شفافتين بنفس درجة اللون .
تدفقت الأفكار عديمة الفائدة إلى ذهنه . من وجه اللورد هُكسلي المُحرج، لأنه لم يجد الشاي الذي يُعالج صداعه، إلى مظهر إيسيلا وهي تأتي غالبًا بالشاي في السابق، و إلى المشهد الذي بدأ فيه هذا الشاي بالظهور لأول مرة .
" هل يمكنني الدخول ؟ لقد وجدت شايًا مفيدًا للقلب و الأوعية الدموية، سأضعه و أغادر "
تلاشى صوتها الذي كان يحمل أملاً ضعيفًا، و شد جيوفاني على أسنانه .
تلك الفتاة لم تستطع الدخول إلى هذه الغرفة . باستثناء مرة واحدة، في اليوم الذي تلقى فيه تحذير الإمبراطورة .
من الطبيعي أن محاولة جلب شاي جيد لا يمكن أن تمحو خطيئة جلب التعاسة. فبعد ارتكاب خطأ لا يمكن إصلاحه، لا يمكن لمجرد عمل بسيط مثل هذا أن يكفي .
" الخطأ، يا جيوفاني، أنت من ارتكبته "
طعنت الكلمات، الحادة كالشظايا، قلب جيوفاني، و تذكر صوت هيزل الذي ظهر فجأة، وعاد إلى النظر إلى اللوحة بشكل تلقائي .
حتى بعد أن حلت الكارثة، صمدت عائلته بكرامة، و حافظوا على ضحكاتهم من خلال الثقة ببعضهم البعض .
متى انهار هذا الصمود الهش ؟
في القصر وفي منزل الدوق أيضًا، كانت هناك دائمًا فتاة تنظر إليهم من بعيد .
تذكر جيوفاني دائمًا فتاة كانت تبتعد عنهم بعشر خطوات، وتلك العيون الخضراء المبتسمة بصعوبة بتلك المسافة .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
" ماذا ؟ "
في غرفة الأميرة الفاخرة، كانت الأميرة متكئة على السرير تنظر إلى الآنسة ليبرون وكأنها لا تصدق ما تسمعه .
" أعيدي ما قلتِ يا بيانكا، إلى أين ذهبت الآنسات الأخريات ؟ "
كان هذا في اليوم التالي لإغمائها .
الآنسات و السيدات اللواتي كان يجب أن يتوافدن و يقفن خارج الغرفة عند استيقاظها، لم يكن لهن أي أثر. الهدايا التي كانت تملأ الغرفة كانت قليلة على الجدران .
أمام الأميرة، كانت تجلس فقط ثلاث آنسات، بما في ذلك الآنسة ليبرون، يتبادلن النظرات بحيرة .
قبضت الأميرة على اللحاف بانزعاج .
" … ذهبوا للتحضير لحفلة الشاي التي ستقيمها الأميرة مادلين للوفد "
" ماذا ! "
شعرت الأميرة بحدة صوتها، فكتمت غضبها و تظاهرت بالضعف، قائلة بصوت منهك : " هل تقولين أن صديقاتي العزيزات لم يأتوا إليّ بعد إغمائي، بل ذهبوا إلى الأميرة مادلين ؟ وما هذا الهراء عن حفلة شاي للوفد ؟! "
ارتجف صوتها من الغضب الذي لم تستطع كبته. من بين الآنسات اللاتي كن يتبادلن النظرات، قالت الآنسة ليبرون : " إنه أمر من جلالة الإمبراطور "
" جلالة الإمبراطور ؟ "
ماذا يعني هذا ؟ نظرت الأميرة إلى الآنسة ليبرون بعينين مضطربتين. قالت الآنسة، التي كانت محتارة قبل قليل، بهدوء : " نعم، أمر جلالة الإمبراطور الأميرة إيسيلا مادلين بتنظيم حفلة شاي بعد الغداء مع الوفد "
شحب وجه الأميرة، و ألقت اللحاف جانبًا بسرعة. وعلى الرغم من ارتجاف يديها، رسمت على شفتيها ابتسامة مصطنعة : " هذا مستحيل يا بيانكا، جلالة الإمبراطور لن يفعل ذلك، لابد أنه أوكل لها هذه المهمة ظنًا منه أنني ما زلت مريضة … "
" أعتقد أنه بسبب الشائعات، يا سموك "
" شائعات ؟ "
" يا آنسة ! "
نظرت الأميرة شاحبة الوجه إلى الخلف، حيث كانت الآنسة ليبرون تحدق في الآنسة شارمين التي تحدثت خلفها .
آه …… عندها فقط، أدركت الآنسة شارمين خطأها، و ارتجف جسدها. كانت البارونة روهاس قد نصحتها بالانتباه لما تقوله عند الدخول .
لكن على الرغم من أنها جاءت إلى غرفة الأميرة، وليس إلى منزل الدوق مادلين، كانت المحادثة كالعادة مع الآنسة ليبرون فقط. شعرت بالغيرة، وفي لحظة أرادت فيها جذب الانتباه، تحدثت عن "الشائعات".
كان ندمًا متأخرًا، فقد سألت الأميرة : " ما هي تلك الشائعات ؟ "
" إنها ليست مهمة، يا سموك "
حاولت الآنسة ليبرون تهدئتها على عجل، لكن نظرات الأميرة كانت مثبتة بالفعل على الآنسة شارمين، وكانت تلك النظرات الحادة و الملحة مغرية .
كانت الآنسة ليبرون حمقاء، كيف تدافع عن الأميرة التي تجاهلتها ؟ شعرت شارمين بالرضا، و ارتفع أنفها .
بينما كانت تستمتع بكون الأميرة النبيلة تستمع إليها بلهفة، تظاهرت الآنسة شارمين بالارتباك و تمتمت : " أوه، سموك، ألم تسمعي ؟ الشائعات منتشرة في كل مكان "
" آنسة ! "
" حسنًا، ما هي الشائعات ؟ "
الأميرة التي تبتسم ببرود، و بيانكا الغاضبة التي تحاول إيقافها، و شارمين نفسها، كانت هي من تسيطر على الموقف .
تحدث فمها الذي لم يفكر في العواقب بلا مبالاة : " الشائعات تقول أن الأميرة تعرضت للإهانة أمام الوفد الأجنبي بسبب السيد مادلين الثاني، لقد انتشرت في القصر كله "
" يا آنسة ! "
بعد الكلمات الخفيفة التي قيلت، صدر صوت غاضب. عادت مربية الأميرة، البارونة روهاس، إلى الغرفة وكانت تحدق في الآنسة شارمين .
في تلك اللحظة، سال العرق البارد على ظهرها. كانت قد تحدثت بخفة، بسبب الإثارة من الاهتمام، دون أن تدرك عواقب كلماتها، لكن وجه الأميرة الشاحب بدأ ينخفض ببطء .
" لذلك، الجميع ذهب إلى الأميرة مادلين … "
تمتمت الأميرة وكأنها تحاول سد الجرح الذي أصاب كبريائها .
****************************
شكرا لترجمة 💕
ردحذفما فهمت حوار الدوق وجايد، شكرا على الفصل ^o^
ردحذفأيش اللي ما فهمتيه بالضبط ؟
حذفمحتاجين دفعه فصولللللل 🥹🥹❤️❤️❤️
ردحذفحصل 🥺♥️
حذف