الفصل ٤٢ و ٤٣ : ذهبت الأميرة إلى الشمال و أفسدت الأمور


قبلت السيدة جيس بسهولة عرض سيرفيليا للعمل هنا حتى تتمكن من إقناع آرتشي .

نظرًا لأن المزرعة كانت بحاجة إلى الكثير من العمالة، فقد كان ذلك بمثابة ترحيب كبير لها.

المشكلة كانت أن آرتشي قام بعمل يعادل جهد شخصين و سيرفيليا عملت بجهد شخص واحد، بينما لوسيان قام بعمل يعادل ثلاثة أشخاص، مما يعني أن النتيجة النهائية كانت صفر .

كانت سيرفيليا دائمًا تسبب المشاكل، وبغض النظر عما فعله آرتشي، فإن ذلك لم يساعد، مما جعل لوسيان هو الشخص الوحيد الذي يعمل بجد .

" بالطبع، العمل البدني مقدس، لكنني بعيدة عن القداسة "

" يبدو أن من يعرف ذلك قد اقتحم غرفة الاعتراف من قبل "

رفعت سيرفيليا حاجبيها في استغراب، وكأنها تسأل من فعل ذلك، لكنها أدركت بعد لحظة أنها كانت هي من قامت بذلك .

لحسن الحظ، مرت تلك الحادثة بسلام بفضل تهاون الكاهن الأكبر يورون، ولكن يبدو أن الجرح الذي تركته في قلب لوسيان لم يشفى بعد .

" يا إلهي، أنت حقاً شخص لا ينسى الماضي."

" أنوي أن أستمر لفترة طويلة."

جمع لوسيان آخر قطعة من القش بعناية .

" حان وقت جز صوف الأغنام، هيا نذهب معاً "

"من يراك يظن أنك تعمل هنا منذ عشر سنوات، لماذا تعمل بجد هكذا؟"

"إذا أُعطيت عملاً، يجب أن أبذل قصارى جهدي."

تحسن مزاجها عندما خرجت من الحظيرة ذات الرائحة الكريهة إلى الحقل حيث تهب نسمات نقية . فردت سيرفيليا ذراعيها وأخذت نفساً عميقاً.

طار شعرها البلاتيني في النسيم المنعش . رائحة العشب الجاف و رائحة الربيع الدافئة تداعب أنفها. مشهد قطيع الأغنام البيضاء وهي تجري في الحقل أمام عينيها …. شعرت بدغدغة في أنفها من هذا السلام غير المألوف .

اقتربت سيرفيليا من السيدة جيس التي كانت تجز صوف الأغنام في جانب الحقل . بدت الخراف كسولة للغاية، مستلقية بهدوء وتسلم نفسها لها . كان الصوف يتساقط بقطع كبيرة تحت مقصها الماهر.

"لكن لماذا بطن هذه منتفخة هكذا؟"

تحت الصوف الناعم، كان هناك بطن منتفخ كبالون ماء. نظرت سيرفيليا إلى الخروف بوجه مليء بالفضول .

" إنها حامل."

" حامل ؟ أوه …. "

سيرفيليا، التي لم ترى خروفاً حقيقياً من قبل وكانت تعرف فقط كيف تأكل لحم الضأن، بدت كما لو أنها اكتشفت حيواناً أسطورياً. وكونها حامل جعلها أكثر إثارة للدهشة.

"هل كان الخروف أنثى؟"

صرخ آرتشي بصوت مندهش من جانبها. كان من المستحيل معرفة ما الذي رآه أو تعلمه خلال الأسبوع الذي قضاه هنا.

أكملت السيدة جيس جز الصوف بتعبير استسلام تام.

"الولادة قريبة، لذا يجب أن نأخذها إلى حظيرة الولادة."

عندما نظرت في الاتجاه الذي أشارت إليه السيدة، رأت حظيرة منفصلة مفروشة بقش نظيف . قادت سيرفيليا النعجة التي تم جز صوفها إلى حظيرة الولادة . تبعتها بهدوء كما لو كانت تعرف إلى أين تذهب.

عندما خرجت من حظيرة الولادة، رأت لوسيان و آرتشي يكافحان لجز صوف الأغنام . كان آرتشي يمسك بخروف أكبر من حجمه بينما كان لوسيان يجز الصوف بمهارة .

" أمسكها بشكل صحيح ! كيف يمكنك خدمة صاحبة السمو وأنت ضعيف هكذا؟"

" لا بأس، صاحبة السمو أقوى مني على أي حال."

كان مشهداً غريباً أن نرى الدوق الشمالي لوسيان بيرنز و ابن عائلة البارون النبيل آرتشي ريفرهيل يتصببان عرقاً وهما يجزان صوف الأغنام .

كان لوسيان يتنهد باستمرار كما لو كان محبطاً من آرتشي، بينما لم يلاحظ آرتشي ذلك على الإطلاق و ظل يلوح لسيرفيليا .

نبلاء في مزرعة أغنام …. كان مزيجاً غير متناسق حقاً .

" ماذا تفعلين واقفة هناك ؟ تعالي هنا و ساعدي في صنع الجبن."

تبعت سيرفيليا السيدة جيس بخطوات صغيرة استجابة لتوبيخها.

في المطبخ، كان كل شيء جاهزاً لصنع الجبن. صبت سيرفيليا حليب الأغنام في قدر كبير وغلته حسب تعليمات السيدة . بعد قليل، انتشرت رطوبة دافئة في المطبخ .

"حان وقت إضافة عصير الليمون و الملح."

أحضرت السيدة جيس المكونات و وضعتها أمام سيرفيليا. أضافت سيرفيليا الكمية المحددة بحذر إلى القدر المغلي . بدأ حليب الأغنام يغلي وكاد يفيض.

سيرفيليا، التي لم تطبخ في حياتها من قبل، فزعت و اختبأت خلف السيدة.

" هل … هل هذا طبيعي ؟ "

"طبيعي جداً."

غادرت السيدة بعد أن طلبت منها فقط أن تراقب القدر كي لا يفيض.

كانت مشغولة جداً. لم يكن من السهل إدارة مزرعة بهذا الحجم بمفردها، لكنها بدت وكأنها تقوم بعمل ثلاثة أشخاص على الأقل.

أخذت سيرفيليا بحذر ملعقة من حليب الأغنام المغلي لتتذوقه . كان مالحاً فقط دون أي طعم مميز . لم تصدق أن هذا سيتحول إلى جبن لذيذ عندما يتماسك، فظلت تراقب الغليان لفترة طويلة.

بعد مرور وقت مناسب، يتم سكبه في قطعة قماش قطنية لفصل مصل اللبن . شعرت بالإثارة وهي تشاهد الجبن يأخذ شكله تدريجياً .

" يبدو مثل السحاب."

"عندما يتماسك هذا، سيصبح جبناً لذيذاً."

تم وضع الجبن الذي صنعته سيرفيليا في مخزن الطعام البارد تحت الأرض . بعد يوم واحد من النضج، سيكتمل الجبن اللذيذ .

بينما كانت تصنع الجبن، كان الرجلان قد انتهيا من جز صوف الأغنام وكانا يضعان الصوف في أكياس .

" سموك ~ ! "

ركض آرتشي نحوها و وضع كتلتين من صوف الأغنام على رأسها.

" سموك أرنب ~ ! "

"هل تريد أن تموت؟"

انفجر لوسيان، الذي كان يراقب المشهد من الخلف، ضاحكاً . نظرت إليه سيرفيليا بعينين ضيقتين.

"هل تجدني مضحكة؟"

" أوه، لا، آسف "

أصبح وجهه أحمر قانياً وهو يحاول كبح ضحكته . أخذت سيرفيليا الصوف من يدي آرتشي واقتربت من لوسيان.

" تعال هنا."

عندما اقترب لوسيان متردداً، بدأت في وضع كومة من الصوف على رأسه، لكن الصوف كان ينزلق باستمرار و يسقط على الأرض .

انحنى بشكل طبيعي ليخفض قامته، و اقتربت سيرفيليا أكثر فأكثر وهي تركز على وضع الصوف .

" …. سموك "

" ماذا ؟ لا تقاطعني فأنا مشغولة."

" سـ، سموك."

عندما نظرت إليه رداً على ندائه المتألم، كانت وجوههم قريبة جداً . كادت رموشه أن تلامس خدها، و أنفاسه الدافئة دغدغت عنقها .

نظرت سيرفيليا إلى رموشه الناعمة، ثم أمسكت بذقنه و همست :

"هل نفعلها؟"

" مـ، ماذا تريدين أن تفعلي ؟! "

صفع لوسيان يد سيرفيليا و تراجع خطوة للخلف، ثم بدأ يمسح شفتيه بظهر يده كما لو كانت شفتاهما قد تلامستا.

ضحكت سيرفيليا مستمتعة بالمشهد . كانت ردود أفعاله كبيرة و فورية مما جعل مضايقته ممتعة.

"ماذا ظننت أنني سأفعل؟"

" لا أعرف ما كنت تنوين، لكن هناك أعين تراقبنا، لذا أرجو أن تضبطي نفسك."

بدا لوسيان محرجاً من رد فعله المبالغ فيه، فعدل وقفته متظاهراً بأن شيئاً لم يحدث، ثم عاد إلى هيئته الوقورة المعتادة .

لكنه لم يكن يعلم أن هذا التصرف كان يثير روح التحدي لدى سيرفيليا أكثر .

" حقًا ؟ آرتشي، غطي عينيك."

بعد أن تأكدت سيرفيليا من أن آرتشي غطى وجهه بيديه، اندفعت نحو لوسيان مرة أخرى، لكنها أُوقفت بيديه اللتين أمسكتا كتفيها بسرعة .

" أنت سريع جداً."

" لقد تلقيت الكثير من التدريب، لم أكن أتوقع أن أستخدمه في موقف كهذا."

رفعت يديها مستسلمة ثم ذهبت لمساعدة آرتشي في نقل الصوف . وبينما كانت سيرفيليا و آرتشي يمشيان و يتدافعان، تبعهما لوسيان بنظرة بائسة.

عندما عادت سيرفيليا إلى الكوخ بعد الانتهاء من الترتيب، فغرت فاهها عند رؤية المأدبة التي كانت قد أُعدت . كانت وجبة رائعة يصعب تصديق أن السيدة جيس أعدتها وحدها في وقت قصير .

جلست على الكرسي وهي متفاجئة .

"هل اليوم مناسبة خاصة؟"

"لدينا ضيوف كثيرون، لذا بذلت جهداً إضافياً."

سُرت السيدة جيس من إعجاب سيرفيليا، فوضعت كمية وفيرة من اللحم المملح في طبقها.

بعد العمل البدني، شعرت بجوع شديد عند رؤية الطعام . بالطبع، ساهمت الرائحة الشهية التي ملأت الكوخ في ذلك أيضاً.

" كُلي الكثير."

مزقت سيرفيليا قطعة كبيرة من الخبز و غمستها في حليب الأغنام ثم وضعتها في فمها و مضغتها . ذاب الخبز الناعم في فمها، شعرت كأن تعب اليوم كله قد تبدد .

" ليس من الضروري أن تذهبي إلى هذا الحد."

" لم أرى ضيوف منذ فترة، لذا يجب أن أقدم لكم الضيافة اللائقة، هذا النبيذ قد تم تخزينه طوال الشتاء، لذا فهو ثمين و مذاقه ممتاز، لذا اشربوا كوبًا "

بدت السيدة جيس في حالة مزاجية جيدة جدًا.

قامت بفتح زجاجة النبيذ بحماس و سكبت لكل شخص كوبًا، لم تتردد سيرفيليا في شرب النبيذ.

"طعمه رائع!"

"تجنبي الإفراط في الشرب."

عند تحذير لوسيان الرقيق لكن الحازم، وضعت سيرفيليا الكوب الذي في يدها.

" النبيذ ليس مجرد مشروب بل دواء …. "

" إذا شربت الدواء و ثملتِ، فلن تكون هناك فائدة."

أخذ لوسيان الكوب الذي كانت تشرب منه سيرفيليا و شربه دفعة واحدة . كان عليها أن تمسك بالكوب الفارغ و تبتلع غضبها .

" أوه، يبدو أن زوجك صارم جدًا "

عندما ضحكت السيدة جيس، صرخ لوسيان و سيرفيليا في نفس الوقت .

" من قال أنها زوجتي ؟! "

" لا، أنا لست زوجته "

احمر وجه لوسيان بقدر النبيذ، لقد بدا مستاءً للغاية .

بالطبع، ليست زوجته، لكن بما أنها خطيبته، لم يكن من الضروري أن يكون بهذا الجدية .

شعرت سيرفيليا بالخيبة تجاه لوسيان دون أن تأخذ في اعتبارها رد فعلها .

نظرت السيدة جيس إليهم بعينين مفتوحتين و سألت :

" إذًا، ما هي علاقتكما ؟ "

" نحن عائلة آرتشي "

ضحكت بصوت عالي و كشفت عن أسنانها الصفراء عند سماع هذه الكذبة السخيفة.

****************************

الفصل : ٤٣


" حسناً، دعنا نفترض ذلك …. حسنًا هذا يكفي للآنسة، و لنصب كأسًا أخرى للشاب هنا "

صبت السيدة كأساً مليئاً بالنبيذ للوسيان .

تذوق لوسيان النبيذ بهدوء و أثنى على طعمه الرائع، و إلى جانبه، كان آرتشي يرتشف من نبيذه أيضاً.

شعرت سيرفيليا بالغيرة من مشهدهما وحاولت عدة مرات أن تسرق رشفة، لكن لوسيان أمسك بها وأخذ الكأس منها .

عندما وصل المرح ذروته و قاربوا على إنهاء العشاء، وبناءً على اقتراح السيدة جيس، خرج الثلاثة إلى الفناء .

رقص شعرهم في نسيم الليل المنعش . تنفست سيرفيليا بعمق. شعرت برائحة العشب الغنية كما لو كانت تتذوق الحقول نفسها .

" أليس الجو جميلاً جداً للبقاء في الداخل؟"

كانت السيدة لطيفة لدرجة أنها أشعلت ناراً في جانب الفناء . تجمع الثلاثة حول النار وهم يستمعون إلى صوت طقطقتها .

" بالمناسبة، إلى متى تنوون البقاء هنا؟"

سألت السيدة جيس وهي تلقي بالحطب في النار . أجاب آرتشي وهو يرمش بعينيه الكبيرتين :

" حسناً، أعتقد أنه من الأفضل أن نعود غداً."

"من قرر ذلك؟"

حدقت سيرفيليا إليه بتعبير غير مصدق .

" ألم يكن الأمر متوقفاً على تغير رأيي ؟ لن أكون عنيدًا بعد الآن."

"لكنني غيرت رأيي، أنا أحب هذا المكان."

ضحكت السيدة بصوت عالٍ على هذا القول.

جلست سيرفيليا بجانبها و شاركتها في رمي الحطب في النار . عندما رأى لوسيان هذا المشهد، ساء مزاجه.

إذا غادروا من هنا، سيتعين عليها العودة إلى العاصمة حتماً، وهي لم تكن تريد ذلك. على الأقل، كانت تريد معرفة ما الذي يخفيه لوسيان، وما هي مشاعره الحقيقية .

" آه، تذكرت، لقد وجدت شيئاً جيداً في الحظيرة في وقت سابق "

ركض آرتشي إلى الحظيرة بوجه متحمس وعاد مسرعاً حاملاً شيئاً.

كان عوداً قديماً. رغم أن أوتاره كانت مرتخية وبه الكثير من العيوب، إلا أنه بدا صالحاً للعزف.

" آه، فهذا كان موجوداً هناك."

بعد أن سمحت لهم السيدة جيس باللعب كما يشاؤون، ذهبت إلى النوم مبكراً .

أخذ آرتشي العود و تظاهر بالعزف عليه وهو يقلبه يميناً و يساراً .

" أنت حتى لا تعرف كيف تعزف."

"لكن أبدو وسيماً، أليس كذلك؟"

رغم انتقادات سيرفيليا، استمر آرتشي في العزف بشكل فوضوي .

" هذا ليس عزفاً، إنه ضجيج "

"دعني أجرب."

أخذ لوسيان العود و فحصه، ثم مرر أصابعه على الأوتار. وعلى عكس آرتشي، انطلقت أصوات جميلة . اتسعت عيون سيرفيليا بدهشة .

"هل تعرف العزف على العود أيضاً؟"

"قليلاً."

بدأت النوتات الموسيقية تتصاعد واحدة تلو الأخرى في السماء الليلية المنبسطة كالسجادة.

بدا عليه الخجل قليلاً، ثم بدأ يغني بصوت منخفض حنون مع عزف العود . كانت أغنية عن حب فارس عاشق لسيدة نبيلة .

أُسرت سيرفيليا بالمشهد الذي بدا كلوحة فنية.

همس الصوت الجميل بكلمات الحب، و تردد صدى الرومانسية كما لو كان يعزف ضوء النجوم في السماء الليلية .

تساءلت لمن كانت كلمات تلك الأغنية موجهة . بغض النظر عن الشخص الذي كان في قلب لوسيان، كانت سماء المزرعة الليلية جميلة، وكان صوته يتلألأ كالنجوم، مما جعل سيرفيليا تشعر بالاسترخاء .

انسحب آرتشي بهدوء، تاركاً سيرفيليا وحدها تستمتع بأداء لوسيان. استمر لوسيان في الغناء ثم وضع العود جانباً وهو ينظر خلسة .

تنهدت سيرفيليا بأسف .

" لماذا ؟ لماذا لا تواصل ؟ "

" أميرة، هلا أخبرتني الآن، لماذا لا تريدين العودة ؟ "

" حسناً، أليس هذا ممتعًا ؟ الطقس جميل، و الخراف لطيفة …. "

" هذا صحيح، لكنني لا أعتقد أنك تريدين البقاء هنا لمجرد هذه الأسباب."

لم يقتنع لوسيان بإجابة سيرفيليا المتهربة، ثم قررت في هذه اللحظة أن تكون أكثر صراحة .

مالت سيرفيليا نحو لوسيان قليلاً وقالت :

" أردت فقط قضاء بعض الوقت معك، وأن تحصل على قسط من الراحة، ألم يقل مساعدك ذلك أيضًا ؟ "

تذكرت أن هيوز، مساعد لوسيان، قد ذكر عرضاً أنه بحاجة إلى الراحة .

" إذا كان هذا هو السبب فقط، فيمكنك البقاء في القصر."

" لا، ليس في القصر، أردت أن نقضي الوقت في مكان كهذا، بعيداً عن كل ما يحيط بك و بي، في جو مريح تماماً"

ضحكت سيرفيليا وهي تنفض ملابس العمل التي ترتديها.

" ألم تقل وقتها أنه لو لم أكن من العائلة المالكة، ولم تكن أنت نبيلاً، لاستطعنا أن نكون صريحين ؟ حسناً، ألا يشبه وضعنا الحالي ذلك تماماً ؟ "

في هذه اللحظة، كان كلاهما يبدوان كعاملين عاديين في المزرعة . لا ملابس فاخرة، ولا قصر مبهر، ولا خدم يحيطون بهما .

كانت سيرفيليا تنتظر لحظة كهذه .

" أخبرني الآن بصراحة، أنت تخفي شيئاً عني، أليس كذلك؟"

لف لوسيان بطانية سميكة حول كتفي سيرفيليا بصمت، ثم حدق فيها للحظة .

من بعيد، كان صوت البومة يتردد في الغابة . في تلك الليلة الهادئة حيث بدت النجوم وكأنها تتنصت على حديثهما، كسر لوسيان الصمت بصوت خافت .

" لقد ارتكبت جريمة كبيرة، لهذا السبب لا يمكنني رؤيتك بحرية، ولا يمكنني الزواج منك "

"جريمة؟ أي جريمة؟"

تذكرت فجأة ما قاله لوسيان في اعترافه. قوله أنه يحب شخصاً لا يجب أن يحبه . رغم أن لوسيان ادعى حينها أن كل ما قاله كان كذباً، إلا أنه يبدو أنه كان صادقاً .

" هل تقول أن هناك شخصاً آخر في قلبك؟"

" أميرة، كما قلت مراراً، هذا مستحيل تماماً."

أجاب لوسيان بهدوء، وكأن الأمر لم يعد مفاجئاً … لكن إن لم يكن هذا، فلا يمكنني تخيل أي ذنب يمكن أن يرتكبه لوسيان.

" لقد ارتكبت ذنباً لا يوصف، و أتعلق هنا بالحاجز كفارة له، لذلك ليس من الصعب البقاء عند الجدار، ولكن …. "

رفع لوسيان رأسه قليلاً و نظر إلى سيرفيليا . وضع شعرها المتناثر في نسيم الليل خلف أذنها .

" الصعب فقط أنني لا أستطيع رؤية من أشتاق إليه."

" أرشيدوق، إذن …… "

" الهواء بارد في الليل، من فضلك اذهبي للنوم الآن."

قطع لوسيان حديث سيرفيليا وقام من مكانه. كان هذا تعبيراً صامتاً عن عدم رغبته في الإجابة أكثر .

أوصلها إلى غرفتها، ثم عاد إلى غرفته التي يشاركها مع آرتشي .

سحبت سيرفيليا الغطاء حتى أنفها، و تذكرت لوسيان وهو يغني قبل قليل . كان جماله الذي قد يثير غيرة حتى الجنيات كفيلاً بأن تقع في حبه أي امرأة من النظرة الأولى .

' ما هو الذنب الذي ارتكبه الدوق ؟ ومن هو الشخص الذي يشتاق إليه ؟ '

بدا أن الأسئلة تزداد عمقاً بدلاً من أن تجد إجابات، وبينما هي غارقة في هذه الأفكار، غفت سيرفيليا في النوم .

* * * * * * * * * * * * * * * * * * *

في يوم مشمس، لم تشعر سيرفيليا براحة أكبر من استلقائها على البساط في العشب .

" سنعود إلى القصر في المساء."

قال لوسيان بحزم وهو يقشر الفاكهة بجانبها. أجابت سيرفيليا بهدوء وهي تقضم الفاكهة التي قدمها لها :

" قلت أنني فهمت."

عندما ذهب آرتشي لرعي الأغنام، رافقه الاثنان في نزهة . جلسا على بساط تحت شجرة كبيرة يراقبان الأغنام وهي تجري في الحقل.

كان مشهداً مفعماً بالسلام . كان الجدار العالي مرئياً في الجوار، لكن كان من الصعب تخيل أن أرض الموت المروعة تمتد خلفه .

"أشعر بغرابة ونحن هكذا."

"ماذا تقصد؟"

كان لوسيان في ملابس العمل الخفيفة يبدو مثل صبي قروي بريء . وعندما أحنى رأسه قليلاً و تورد وجهه وهو يقشر الفاكهة، بدا كزوج تزوج حديثًا .

" أشعر كأنني أصبحت من عامة الشعب، كأنني شخص عادي يدير مزرعة "

" حسناً، النبلاء و العامة متشابهون، الفرق فقط في مكان ولادتهم و ملابسهم."

" لم أكن أعرف أنكِ تفكرين بهذه الطريقة "

نظر إليها لوسيان بتعبير مفاجئ . قد يعتبر البعض كلامها معارضاً للنظام، لكن سيرفيليا لم تهتم.

" حسنًا، فأنا عندما أخلع فستان الأميرة، لا أصبح شيئاً "

"لماذا تفكرين هكذا؟"

"كل ما أملكه حصلت عليه لأنني أميرة، وليس شيئاً حققته بقوتي، لذلك سيختفي كل شيء قبل أن أتمكن من الإمساك به."

شربت سيرفيليا حليب الأغنام من الزجاجة بجرعات كبيرة، ثم ندمت على كلامها غير المقصود .

كانت تفكر دائماً بهذه الطريقة حتى خرجت الكلمات من فمها دون وعي .

ساد صمت محرج بينهما . تردد لوسيان وهو يعبث بالكأس في يده. بدا كأنه يريد قول شيء لكنه لا يستطيع.

عندما بدأت الزبدة تذوب، تكلم أخيراً.

" أميرة، بخصوص الحب من طرف واحد الذي تحدثت عنه سابقًا …… "

عبست سيرفيليا من هذا الحديث غير المتوقع .

" هل ما زلت تفكر في ذلك ؟ لا تهتم، كان مجرد كلام عابر "

أشارت سيرفيليا بيدها رافضة . هذا الرجل ضيق الأفق أكثر مما يبدو . يتذكر كل شيء من الماضي البعيد، و يأخذ الكلام العابر على محمل الجد .

" إنه …. إنه يزعجني، أنا أسأل فقط لأنني أشعر بالفضول بشأن آراء الآخرين، لذا أرجو أن تجيبي بصراحة "

" تحدث "

أومأت سيرفيليا برأسها بتعاطف . تردد لوسيان مرة أخرى لفترة، ثم تابع بصعوبة دون أن ينظر إليها مباشرة.

" هل كنتِ جادة عندما قلتِ إنه أمر مخيف ؟ "

"نعم."

تصبب العرق على جبينه الوسيم وكأنه صُدم من إجابتها الحاسمة .

" ماذا …. ماذا لو أن شخصاً ما أحبك من طرف واحد لفترة طويلة جداً ؟ كيف ستشعرين حيال ذلك ؟ "

" هذا أسوأ ! ما هذه الألاعيب السرية ؟ كأنه فأر يختبئ "

عندما ارتعدت سيرفيليا مظهرة اشمئزازها، ظهر تعبير الجرح على وجه لوسيان .

" … فهمت "

"حسناً، لكننا على أي حال مقيدون بزواج سياسي، فما فائدة الحب من طرف واحد أو غيره؟"

بعد أن أنهت سيرفيليا كلامها اللاذع، استلقت مباشرة مستخدمة فخذ لوسيان القوي كوسادة .

" أمـ، أميرة ! "

شعرت سيرفيليا بتصلب جسد لوسيان، لكنها لم تعر الأمر اهتمامًا .

كانت نسائم الربيع اللطيفة تلامس أنفها، وكان الشاب الجميل يجلس بالقرب منها، ولم يكن هناك ما هو أفضل من ذلك .

استسلمت سيرفيليا للنوم دون أن تشعر .

بعد لحظات، استيقظت سيرفيليا على لمسة لطيفة تداعب رأسها . لم تتمكن من تحديد ما إذا كان ذلك حلمًا أم واقعًا .

فتحت عينيها و حدقت لأعلى لترى لوسيان، الذي كان وجهه محمرًا وهو يحدق في الأفق البعيد .

" أرشيدوق، هل الجو حار؟"

"ماذا؟"

" وجهك أحمر."

" آه، الشمس، هذا لأن ضوء الشمس حار "

على الرغم من أن الاثنين كانا تحت ظل شجرة ضخمة، لكن سيرفيليا لم تكلف نفسها عناء الإشارة إلى ذلك . وذلك لأن بشرته البيضاء قد احمرت، مما جعل مظهره يشبه الخوخ الناضج في يوم صيفي .

مدت سيرفيليا يدها وهي مستلقية لتلمس ذقن لوسيان .

وجهه كان مثيرًا للإعجاب حقًا . كانت ملامح لوسيان المنحوتة لا تعاني من أي عيب، حتى عند النظر إليه من الأسفل، كان يبدو رائعًا بشكل مذهل .

عندما قامت بتحريك ذقنه يمينًا و يسارًا، عبس لوسيان كأنه يشعر بالانزعاج .

" توقفي عن ذلك."

" لا داعي لأن تتصرف بمثل هذه الكلفة."

عندما أصبح وجه لوسيان عابسًا، أدركت سيرفيليا أنها بحاجة إلى التوقف، فقامت و وقفت .

يبدو أنها قد نامت لأكثر من ثلاثين دقيقة . لم يكن هناك أثر لآرتشي، وكأن القطيع قد ذهب بعيدًا.

"أين آرتشي؟"

" لا أعلم، لم يظهر منذ فترة."

" يجب أن نبحث عنه."

" حسنًا "

بينما كانت سيرفيليا تنفض الغبار من ملابسها، كان لوسيان يرتب المكان . طوى القماش الكبير الذي كان على العشب بعناية و وضعه في حقيبته .

تقدمت سيرفيليا نحو التل، وتبعها لوسيان ببطء.

" هل ذهب في هذا الاتجاه؟"

" نعم، وراء هذا التل …. "

عندما وصلوا إلى أعلى التل، سمعوا صراخًا بعيدًا .

" …. آرتشي ؟ "

عندما عبروا التل بسرعة، رأوا قطيع الأغنام ملطخين بالدماء و ملقون على الأرض، ولم يكن هناك أثر لآرتشي .

" آرتشي ! أين أنت يا آرتشي ؟! "

" آرتشي ! "

ركضت سيرفيليا و لوسيان بسرعة إلى مكان الأغنام الملقاة … كان المشهد مخيف .

كانت الأغنام ممددة على الأرض، جلدها ممزق من مخالب حادة … شعرت سيرفيليا وكأن قلبها قد توقف، كانت تفكر في ما ستفعله إذا عثرت على آرتشي بينهم .

" أميرة ! "

جاء آرتشي وهو يعرج من الجانب الآخر، وهو مغطى بالدماء .

****************************

*

إرسال تعليق (0)
أحدث أقدم

اعلان