في حديقة القصر الرئيسي بڤيكاندر، تحت أشعة شمس الظهيرة .
— مع حبي، أختك إيسيلا .
ابتسمت أوليڤيا وهي تقرأ حتى التحية المليئة بالمودة بعناية. قصص الشائعات التي تجتاح العاصمة و قصص إيسيلا التي أصبحت تسيطر على الأوساط الاجتماعية أكثر من الأميرة .
كان قلبها مضطربًا بعد قراءة رسالة إيسيلا التي ملأت ثلاث صفحات كاملة، لكن القصة التي كانت تنتظرها بشدة لم تُذكر هذه المرة أيضًا .
يبدو أن الدوق إلكين، و الإمبراطورة، و الأميرة ما زالوا يحتفظون بمكانتهم الرفيعة. لقد وعدت بتنفيذ انتقام قاسٍ، لكن يبدو أن الدوق مادلين لم يقم بسحب سيفه بعد .
من الطريقة التي كان يحني بها رأسه بشدة في ذلك اليوم، بدا وكأنه سيتخذ إجراءً على الفور .
تذكرت أوليڤيا الذكرى التي تلاشت بضبابية ثم هزت كتفيها. على أي حال، لو كان الدوق قد عقد العزم وسحب سيفه، لكان ديان قد هرع إليها أولاً بالصحف المليئة بالشائعات الفظيعة في العاصمة، قبل وصول رسالة إيسيلا .
من المحتمل أن ديان، وهو يحمل الصحف المرفرفة بوجه مبتهج، كان سيقول شيئاً كهذا : " يا آنستي ! أخيرًا رجال العاصمة يكتبون مقالات صحيحة ! "
ابتسمت أوليڤيا ابتسامة خفيفة عند توقعها المعقول ونظرت إلى ديان الواقف على يمينها. ابتسم ديان بدوره دون أن يعلم بالسبب .
" هل هناك شائعة ممتعة في العاصمة، يا آنستي ؟ "
" لا شيء يذكر، ربما مجرد انتشار أعمال الخير التي يقوم بها المتبرع الذي يستخدم اسم إزميرالدا ؟ "
" ومع ذلك، لن تصل أعماله الطيبة إلى مستوى سخاء راعيتنا العزيزة، الآنسة ليڤ جرين، ما تفضلتِ به علينا في ذلك الوقت لم يكن مجرد طعام بسيط، بل ديك رومي كبير ولذيذ في زمن الحرب ! "
تحدث ديان بوجه جدي. على عكس محتوى كلامه، كان وجهه مخلصًا .
" أنتِ يا آنستي، لم تكوني قديسة فحسب، بل كنتِ أيضًا ليڤ … ليڤ جرين ؟ "
منذ أن كشفت أوليڤيا عن حقيقة أنها هي ليڤ جرين، تصرف ديان، الذي صُدم حتى كادت عيناه أن تبرزان، كتابع مخلص لليڤ جرين .
على سبيل المثال : عند أكل الديك الرومي، أو عند الذهاب لأكل الديك الرومي، أو بعد الانتهاء من أكل الديك الرومي .
أليس هذا أقرب إلى شغفه بالديك الرومي بدلاً من أن يكون تابعها المخلص ؟
عضّت أوليڤيا على شفتيها وهي تكتم ضحكتها، لكنها في النهاية انفجرت بضحكة مدوية على مدح ديان المتواصل للديك الرومي .
" هل حدث شيء جيد لمالكة الجنوب الغربي ؟ "
سُمع صوت مرح بصفاء السماء الصافية .
" المجد لشمس ڤيكاندر."
توالت التحيات تباعًا مع اقتراب موكب الملك من بعيد. سارعت أوليڤيا أيضًا إلى الوقوف وأدت التحية. لم تكن هذه هي الآداب المثالية أمام الملوك، بل كانت آدابًا متبعة بين أفراد العائلة .
" المجد لشمس ڤيكاندر."
تلقى الملك التحية بابتسامة راضية. تذكر الملك بوضوح مدى تألق وجه الفتاة عندما ذُكرت كلمة "عائلة".
من أين أتت هذه الفتاة الجميلة ؟ تذكر أن اختيار زوجته كان دائمًا صائبًا ونظر إلى المقعد المقابل لأوليڤيا.
" هل يمكنني الجلوس للحظة ؟ "
" إنه لشرف عظيم لي، كنت على وشك طلب مقابلتك على أي حال."
" مقابلة ؟ ما هي الإنجازات الأخرى التي تسعى إليها خطيبة ولي العهد لتبدأ بهذا الشكل ؟ "
تظاهر الملك بالشكوى. كان فخر لا يمكن إخفاؤه يفيض من أوليڤيا وهي تبتسم ببراءة . ابتسم الملك ونظر خلف أوليڤيا.
خارج القصر، زينت أشجار صنوبر كثيفة بارتفاع ستة طوابق المكان .
لكن لن يعلم الناس، أن وراء تلك الأشجار الجميلة و الهادئة مثل لوحة فنية، بدأ العمل في مشروع بناء واسع النطاق لاستخدام الأراضي الداخلية الشاسعة الفارغة لتحويلها إلى قصر ملكي .
*
*
" هذا طموح، ولكن إذا سمحت لي، لقد ألقيت نظرة على تنظيم مخططات شارع يينيڤ و مشروع قنوات الري في حقول تريستان الواسعة للحبوب، وإذا سمحت، أود أن أبدأ في تحويل قلعة الدوق الأكبر إلى قصر ملكي."
تذكر الملك الكلمات الأولى لأوليڤيا عندما جاءت إليه بوجه عازم بعد حفل التتويج، لكن بيثاني هي من دُهشت في الواقع .
" لا يا آنستي، وحفل الزفاف ؟ سيكون التخطيط للزواج وحده مرهقًا بما يكفي."
" تنظيم بسيط للمخططات استغرق بضعة أشهر، فماذا عن القصر الملكي، قد نحتاج إلى توسعات بعد البدء في البناء، لذا حتى لو خصصنا عشر سنوات، فلن يكون من المبكر جدًا البدء الآن."
تجاوزت أوليڤيا اعتراضات بيثاني بابتسامة واحدة. وبدأت في الشرح بهدوء و واثقة من نفسها : " حجم القصر الرئيسي في ڤيكاندر حاليًا ليس كبيرًا مقارنة بأراضي الإقطاعيات التابعة له، بالمقابل، لا يزال النبلاء في الأقاليم التي ضُمَّت حديثًا إلى ڤيكاندر، والذين سيتم ضمهم لاحقًا، يتمتعون بسلطة ونفوذ كبيرين في إقطاعياتهم."
كانوا سيوافقون حتى لو كان الأمر مجرد بناء قصر يتناسب مع حجم المملكة، لكن شرح أوليڤيا كان أكثر جوهرية، لم يكن الأمر يقتصر على إرساء أساس ڤيكاندر، بل كان يتعلق بأفضل طريقة لاستمالة اللوردات الإقليميين .
" لذلك، فكرت في بناء قصر ذي حجم مهيب، ثم دعوة النبلاء إليه لقطعهم عن قواعد نفوذهم، وتشتيت قوتهم، فالقصر الفخم هو في حد ذاته رمز للقوة والجلالة والكرامة المطلقة."
جعلت الكلمات التي أعدتها أوليڤيا الملك يعض على لسانه إعجابًا. عيناها الخضراوان كانتا تتألقان بذكاء دون أن تخفتا، رغم التوتر الواضح عليها .
" بالطبع، سيكلف المشروع الكثير من الميزانية، لذا، إذا تمكنا من تأمين أكبر قدر ممكن من التكاليف قبل حفل الزفاف والبدء في البناء …… "
حركت أوليڤيا شفتيها، وبينما كانت تتحدث بحذر عن مبلغ هائل يمكن تخمينه، قال الملك شيئًا غير متوقع : " سيشعر إدوين بالاستياء."
أظهرت أوليڤيا وجه محتار. فابتسم لها الملك بابتسامة مليئة بالثقة .
" أن تقلقي بشأن الميزانية في ڤيكاندر الثرية هذه ! عندما تقترحين مثل هذه الفكرة العظيمة، لا يجب أن تترددي بشأن الميزانية، بل يجب أن ترفعي رأسك وتتحدثي بثقة أكبر."
ومع استمرار كلام الملك، أشرق وجه أوليڤيا بالبهجة، وغمز لها الملك إزاء فرحتها المتلألئة.
" ابذلي قصارى جهدك يا أوليڤيا، ولا تقلقي بشأن الميزانية."
نهضت أوليڤيا بجدية و اندفاع. وابتعدت مسرعة. نظر الملك إلى ظهرها ونادى سوبيل.
وكانت المحادثة السرية التي دارت بينهما شيئًا لن تعرفه أوليڤيا أبدًا : " سوبيل، يجب أن تحافظ على سرية أمري ببناء قصر خلف القصر الرئيسي."
" ما هو السبب يا صاحب الجلالة ؟ وهل يجب أن نلغي أمرك بتوظيف المعماريين والعمال في أقرب وقت ممكن ؟ "
" أوه، اترك هذا الأمر كما هو، لقد تم العثور عليهم بالفعل، لذا عندما تصدر أوليڤيا الأمر، يمكنك إعطائها القائمة ببساطة."
كل ما كان بوسع الملك فعله هو الغمز بعينه، وهو يرى سوبيل يرمش بعينيه وكأنه فهم الأمر على الفور .
*
*
" لقد أثنيتَ عليّ كثيرًا، كل ما يمكنني تقديمه لك الآن هو فنجان شاي دافئ."
" إنه أكثر من كافٍ."
بدأت أوليڤيا وهي متوردة الخدين بصب الشاي من إبريق الشاي ببطء .
نظر الملك إلى الشاي الذي يتصاعد منه البخار وسأل بطريقة اختبارية : " بالمناسبة، ألا تشعرين بالبرد ؟ "
ابتسمت أوليڤيا. كانت تدرك جيدًا أن قلق الملك نابع من قلادة الحجر السحري التي قدمتها له، لذلك أشارت أوليڤيا إلى فستانها بمبالغة أكبر .
" بالطبع لا، يا صاحب الجلالة، لقد ألقت بيثاني تعويذة قوية جدًا على القصر بأكمله، كما تعلم."
رغم أنها لم تكن ترتدي سوى فستان خفيف دون شال، إلا أن جسدها كان دافئًا. كان الجو وكأن الشتاء القارس غير موجود .
أومأ الملك بالموافقة وهو ينظر إلى خدي أوليڤيا المتوردين، ثم رفع فنجان الشاي بارتياح .
" إذن، ما الذي لديكِ لتخبريني به ؟ "
" حسنًا …… "
حركت أوليڤيا شفتيها للحظة. وكما يحدث دائمًا عند الإعلان عن بداية عظيمة، بدأ قلبها يخفق .
" … لقد تحققت الأمور كما توقعت وقلت يا صاحب الجلالة، وصلتني رسائل من عدة أقاليم جنوبية تابعة للإمبراطورية، ويبدو أنهم سمعوا بحادثة عصابات قطّاع الطرق الأخيرة، فقد عرضوا تقديم الجزية."
ضحك الملك بصوت عالٍ، ثم غمز بعينيه المليئتين بالحنان وقال : " ألا ترين يا أوليڤيا، إذا كان بإمكانك أن تصبحي سيدة بإرسال مائة عربة طعام فقط، و دون إراقة قطرة دم واحدة، فهذه هي الصفقة الأكثر ربحًا على الإطلاق."
" …… "
" أرسلي الحبوب بارتياح يا أوليڤيا، أليست هذه الأقاليم التي أصبحتِ مالكتها ؟ كلما كانت الكمية المرسلة أكبر، كلما كان الموكب أطول، أليس كذلك ؟ سيكون المشهد جميلاً، وحتى لو كانت مائة عربة، فستكون تكلفتها لا تُقارن بما ستكسبينه."
كانت هذه هي كلمات الملك لأوليڤيا عندما حوّل إدوين الأقاليم الخمسة التي حصل عليها بالتفاوض إلى اسمها، وهو يراعي ظروف الأقاليم التي نهبتها عصابات قطّاع الطرق .
في ذلك الوقت، اعتقدت أن كلامه يتشابه مع استراتيجيتها في استمالة تريستان التي كانت تعاني من نقص الغذاء، لكن الآن، أُضيفت مشكلة أخرى : عصابات قطّاع الطرق مجهولة الهوية .
كان الجنوب، الذي كان يجب أن يكون غنيًا، فارغًا بالفعل بسبب استغلال العائلة الإمبراطورية. في بداية الشتاء، حيث يُخشى من نقص الغذاء، بماذا فكر أولئك الذين لم يتلقوا أي حماية، عندما شاهدوا مئات العربات من الطعام تتحرك تحت حراسة فرسان ڤيكاندر ؟
أفاق ذهن أوليڤيا على كلام الملك و ولي العهد الذي كان يسبق الأحداث بخطوتين. في شعور حلو باستقبال عالم جديد، بدأت المشاعر التي لم تكن تعرفها هي نفسها تنبض مع ضربات قلبها.
على سبيل المثال، الرغبة في أن تكون ولية عهد مثالية، أو الرغبة في أن تكون ولية عهد تليق بالملك و ولي العهد .
في تلك اللحظة، جاء سوبيل بوقار وأخبر أوليڤيا : " يا آنستي، البارون ستون يطلب مقابلتك."
" إذًا، ستكون جلسة الشاي اليوم انتهت هنا، اذهبي بسرعة، الآن حان دورك لإنهاء عملك وتلقي الهدايا، أليس كذلك ؟ "
ابتسمت أوليڤيا ابتسامة مشرقة على دعوة الملك الودودة .
*
*
في أعمق نقطة من قصر الملك .
عاد الملك إلى غرفة نومه متذرعًا باستراحة قصيرة، وأخذ نفسًا هادئًا وهو ينظر إلى مكتب عمله .
في اللوحة الزيتية التي أهدته إياها بيثاني، كانت الملكة الأولى لمملكة ڤيكاندر، إزميرالدا لوڤيل ڤيكاندر، تبتسم بوضوح .
اقترب الملك منها ونشر خريطة القارة على المكتب. كانت أراضي ڤيكاندر، التي أصبحت الآن عاصمة المملكة، والأقاليم التي استولت عليها أوليڤيا و إدوين، معلمة حديثًا باللون الأحمر كنقاط انطلاق .
أكثر من نصف القارة، مساحة شاسعة. نظر الملك إلى مملكة ڤيكاندر التي تجاوزت بالفعل حجم إمبراطورية فرانز، وتذكر قسم ولي العهد عندما غادر في رحلته الاستكشافية :
" فقط راقبني لثلاث سنوات يا أبي، سأنتزع تاج مجدي بنفسي، تمامًا كما أمرت."
تجمعت ابتسامة راضية على شفتيه. لقد طلب منه أن يأتي بخطة للاستيلاء على الأراضي، ولم يطلب منه أن يأتي بالأراضي نفسها .
يا له من ذكاء أن يستغل شائعات عصابات قطّاع الطرق التي كانت تنتشر بضراوة بسبب الوضع السياسي المضطرب .
" … يا ترى ممن ورث هذا الذكاء ؟ "
بدا له وكأن صوتًا عزيزًا سمعه كالهلوسة يقول : ' بالطبع، لقد ورثه مني.'
ضيق الملك عينيه ونظر إلى اللوحة. ردت العينان الخضراوان المبتسمتان ببراءة بدلاً من الإجابة الغائبة. تذكر الملك ضحكة الملكة الرنانة التي ما زالت حية في ذاكرته، ثم أومأ برأسه مبتسماً بإشراق .
" صحيح، لا بد أنه ورث هذا الذكاء من زوجتي."
كان صوته مخنوقًا بالمرارة والحنين الذي لا ينتهي، ولكن سرعان ما سُمع صوت سوبيل مع نقرة على الباب : " يا صاحب الجلالة، لقد وصل الفرسان لتقديم تقرير عن جولات التفتيش على الأقاليم."
رمش الملك ببطء، ثم ضحك بهدوء وتمتم متذمرًا بخفوت : " على أي حال، من هذه الناحية، هو يشبه مولر تمامًا."
كان ينتظر الملك أكوام من المهام التي تتطلب موافقته، وهذه المهام جلبت له حيوية جديدة. أصبحت فترات انغماسه في الحزن أقصر تدريجيًا. فقد أصبح مشغولاً بمشاركة قصص حنينه أمام اللوحة .
كان هذا هو الأمر الذي تمناه الجميع، وخاصة امرأة واحدة .
بدت العيون الخضراء الدافئة في اللوحة وكأنها تتلألأ فرحًا، وهي تنظر نحو الملك الذي كان يستمع إلى تقارير شؤون الدولة بوجه وقور .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
****************************