انقضت ثلاثة أيام منذ انتهاء المفاوضات .
كان نبلاء الإمبراطورية يحدقون في بوابة قصر الدوق الأكبر بوجوه يملؤها القلق والترقب .
كان المدخل الوحيد داخل الأسوار العالية المتينة هو هذه البوابة ذات القضبان الحادة، لكن بعد رحيل الوفد، كان قصر الدوق الأكبر يمنع دخول أي نبيل إمبراطوري .
فقط عشر عربات شحن أو أكثر كانت تجوب عتبة القصر بجد و نشاط .
هل من الممكن أنهم بصدد إخراج جميع الأمتعة ؟
ابتلع النبلاء القلق الذي انتابهم فجأة وأطلقوا أصواتاً عالية بلا سبب .
" على أية حال، لقد عاشوا طوال حياتهم كنُبلاء للإمبراطورية، فهل سيعزلون أنفسهم تمامًا عن الإمبراطورية ؟ "
" هذا صحيح ! قصر الدوق الأكبر لا يزال هنا، طالما أن لديهم أعداء، ألن يستمروا في التبادل مع الإمبراطورية ؟ "
قصر الدوق العظيم كالحصن المنيع. لقد تحول التفكير الغامض بأن الدوق الأكبر لن يقطع علاقته بهذه القلعة الساحرة، المليئة بالاشاعات عن ممرات و أنفاق سرية، إلى يقين لا أساس له، يضاف إليه المزيد من الشائعات .
لن يكون انفصالاً كاملاً عن الإمبراطورية، ألا يمكنهم أن يروا أن فرسان ڤيكاندر لم يرخوا حذرهم في جميع أنحاء العاصمة حتى الآن .
كان ذلك في أحد الأيام التي كانت فيها الشائعات المتباهية تنتشر علناً بين النبلاء .
في صباح يوم باكر، بدأ فرسان ڤيكاندر الذين كانوا يحرسون جميع أنحاء العاصمة بالانسحاب كالمدّ المنحسر.
أصيب النبلاء، الذين اطمأنوا لغياب أي تحركات ملحوظة من قصر الدوق الأكبر لأيام، بالذعر فور تلقي التقرير، و تدافعوا نحو بوابة قصر الدوق الأكبر .
كانت البوابة المغلقة بإحكام مفتوحة على مصراعيها، و العربات كانت تخرج باستمرار دون توقف .
ذهب النبلاء المذهولون عبر البوابة و دخلوا القصر، ثم استداروا ليصابوا بالصدمة .
لم يكن هناك شيء بالداخل … !
لم يكن الأمر يتعلق بعدم وجود نافورة الحديقة، أو أعمدة الإنارة على جانبي الطريق. بل لم يكن هناك أثاث داخلي يزين 'القصر' داخل باب المدخل، ولا حتى الستائر التي كانت تغطي النوافذ بالكامل .
لم يتبقى سوى المبنى نفسه … !
في عيون النبلاء المصدومين، ظهر الدوق الأكبر السابق وهو يمتطي حصانًا أسود ضخمًا، و تتبعه عربة سوداء حالكة .
" هناك ! هناك ! "
تدافع النبلاء نحو العربة. بينما اخترق الدوق الأكبر السابق الممتطي الحصان الأسود طريقه بين الجموع بسهولة، كانت العربة مختلفة .
لو اعترضوا طريق الخيل، سيضطر السائق حتماً إلى إيقاف العربة، لكن كان ذلك خطأً في التقدير .
على الرغم من رؤيته للنبلاء الذين يعترضون الطريق بوضوح، هز السائق ذو الشعر الرمادي اللجام مرة أخرى، ثم، بعد فاصل زمني بطيء، سحب اللجام ببطء .
— صهيل !
وفي اللحظة التي أطلقت فيها الخيل صيحة انزعاج عصبية، رفعت حوافرها الأمامية عالياً في حركة تهديد خادعة. وبسبب ذلك، ضربت الرياح وجوه النبلاء بقسوة .
وعندما خفت أصوات أنفاسهم المضطربة، كان النبلاء الذين انطلقوا بحماس يرتجفون كأوراق الشجر بوجه شاحب.
فقط بعد أن تحسس أحدهم أنفه الذي تلطخ بلعاب الخيل، صرخ أحدهم بغضب : " أيها الـ، المجنون ! هناك نبيل قادم ولكنك لم تتوقف حتى ! لقد كدت أن، كدت أن … ! "
لكن قبل أن يتبدد شعوره بالخوف، سُمع صوت ضحكة ذات نبرة رائعة .
" ومع ذلك، لا يمكننا إيقاف العربة التي تستقلها آنستي فجأة."
" صاحب السمو … ! "
لم يلاحظوا متى كانت النافذة قد انخفضت، كان الدوق الأكبر يبتسم بينما يضيق عينيه. بدا وجهه الجميل الساحر مسرورًا بطريقة ما، فابتلع النبلاء ريقهم متناسين المنطق والخوف معًا .
" إذاً، ما هو طلبكم ؟ "
اندفعوا النبلاء، الذين كانوا صامتين قبل لحظات، ليصرخوا : " يا صاحب السمو، هل ستتركون حقًا قصر الدوق الأكبر على هذا النحو ؟ "
" لقد كنت بطل هذه الإمبراطورية طوال هذا الوقت يا صاحب السمو، فما المجد الذي سيبقى لـ 'فرانز' في غيابك ؟ "
كانت الإمبراطورية قد تقسمت بالفعل، لكن تعابير الدوق الأكبر لم تتغير قيد أنملة رغم النداءات المؤثرة. بل تحركت شفتاه الحمراوان بغضب، كما لو كان يستمع إلى قصة مملة. حينها، اتخذ الكونت تشيس اليائس خطوة جريئة .
" ما رأيك أن تبيع قصر الدوق الأكبر بدلاً من ذلك ؟ "
" … أبيع هذا القصر ؟ "
في تلك اللحظة، تلألأت عينا الدوق الأكبر الحمراوان. وعلى الرغم من الضغط الخفي الذي كان محسوسًا، رفع الكونت تشيس صوته .
ولتأكيد حجته، اقترب تدريجيًا من قصر الدوق الكبير، و وقف النبلاء الآخرون أمامه كما لو كانوا يدعمون رأي الكونت .
" نعم ! إن لم يكن بيعًا، فالإيجار جيد أيضًا ! أليس من المؤسف أن تترك مثل هذا القصر الرائع فارغًا ؟ "
كانت الكلمات المبتذلة تتدفق بسهولة. و رأى أن زاوية فم الدوق الأكبر كانت ترتفع قليلاً. كلما اقترب من القصر، بدا وكأنه يرضى بكلماته .
" إذا تُرك القصر فارغًا بهذا الشكل، فمن المؤكد أن القصر الإمبراطوري سيأتي للتحقيق ولو لمرة واحدة، ألم يكن هناك الكثير من الشائعات حول قصر الدوق الأكبر المنيع ؟ لذا، إذا قمت بتأجيره لي، فسوف أعتني به جيدًا و أُلمّع مجدك حتى لا يبهت … ! "
إذا أصبح مسؤولاً عن إدارة قصر الدوق الأكبر، فسيكون هناك أمل في استمرار الصلة مع ڤيكاندر بأي شكل. وعندئذٍ، حتى لو سقطت الإمبراطورية …
وفي تلك اللحظة التي تضخمت فيها آمال الكونت تشيس.
— انفجار !
مع صوت هائل و موجة قوية، ضربت أجساد النبلاء. غطى الغبار الكثيف أجسادهم، و صدر طنين حاد في آذانهم. وفي لحظة ما، امتلأ الفم بإحساس مرير .
ما هذا … ؟ النبلاء الذين فقدوا قدرتهم على الحكم في تلك اللحظة، نظروا أمامهم بذهول .
قصر الدوق الكبير، الذي كان أمام أعينهم قبل لحظات، اختفى دون أي أثر. لم يكن هناك الجدار الخارجي النظيف، ولا العشب المعتنى به جيداً. حتى الجدار و البوابة المتينين للقصر، اختفوا جميعاً .
— نقرة .
صوت اصطدام الأصابع أيقظهم. كانت هناك ساحرة تقف هناك، و تنظر إليهم باشمئزاز .
الساحرة، التي أزالت الغبار بنقرة واحدة، قامت بتسوية الأرض المليئة بأنقاض المبنى المنهار بمجرد تلويح بيدها عدة مرات .
كانت رؤوس النبلاء تتألم من مشهد لا يصدق وهم يرمشون. وبينما كانوا يرمشون، اخترق آذانهم صوت ضحكة خفيفة مليئة بالمتعة والكسل .
" يا للعار، لم يشاهدوا الخيل وهو يركض، و يبدو أنهم حتى لم يقرأوا أيضًا لافتة التحذير تلك، هذا هو مستقبل الإمبراطورية المتوقع."
حينها فقط، لاحظ النبلاء اللافتة الملتصقة بجانب الجدار، ثم رأوا العربة التي لم تتلوث بذرة غبار واحدة .
الخط الذي كانوا يقفون عليه … ( خطر، لا تعبر الخط )
تنهدت الساحرة بسخرية، وصعدت إلى العربة التي كانت تتبعها. عندما تلاشت أصوات حوافر الخيل المتسارعة وصوت الضحكات، نظر الكونت تشيس إلى الغبار الخانق الذي يغطي جسده، ثم نظر إلى الأرض المسطحة التي لم يتبقى عليها أثر للقصر الفخم .
لا عشب ولا شجرة واحدة، كانت أرض مستوية .
كانت هناك نية قوية واضحة : لن تطأ أقدامهم أرض الإمبراطورية مرة أخرى أبدًا .
" هاهاها "
في لحظة ما، انهار النبلاء على الأرض وكأن القوة قد خارت من أرجلهم.
الوجوه المغطاة بالغبار لم تفعل شيئًا سوى التحديق في العربة التي ابتعدت في الأفق بخيبة أمل .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
في سهل مشمس دافئ .
انتهت وجبة الغداء التي كانت أشبه بنزهة .
عند مفترق الطرق الفاصل بين أراضي ڤيكاندر و سهول تريستان الخصبة، انحنى سوبيل و بيثاني والموظفون الآخرون أمام الدوق الأكبر السابق و إدوين .
" إذًا، سنعود أولاً إلى أراضي ڤيكاندر ونبدأ بالتحضيرات على الفور."
أومأ الدوق الأكبر السابق برأسه. على الرغم من حصولهم على الإذن، لم يتحركوا حتى بدأ هو بتحريك حصانه أولاً .
من نافذة العربة المغادرة، نظرت أوليڤيا إلى سوبيل و هانا، وإلى بيثاني و موظفي قصر الدوق الأكبر .
شاهد إدوين بعينيه نظرة الأسف التي كانت تفحص كل واحد منهم، وهمس بحنان : " الوداع سيكون قصيرًا، لا يمكن لعينَي آنستي أن تكونا حنونتين لهذا الحد."
" … الأمر فقط أن كلمات سمو الدوق الأكبر السابق كانت مؤثرة …… "
ارتعشت زاوية فم إدوين للحظة، لكن أوليڤيا، دون أن تلاحظ تعابير إدوين المتصلبة، أومأت برأسها ببطء .
كانت أوليڤيا تدرك تمامًا أن كل مسح و اختفاء و تركيز يحتوي على كل المودة. لذلك، عندما سمعت عن تفجير قصر الدوق الكبير، اعتقدت أن الخطوات المتهالكة لسوبيل، المليئة بالندم، ستستمر لفترة طويلة .
" إذا كنتَ ابن مولر، فيجب عليك الآن العودة إلى مكانك الصحيح."
لكن في اللحظة التي ربت فيها الدوق الأكبر السابق على كتف سوبيل متحدثاً، استقام كتف سوبيل المترهل .
" ولكن كبير خدم ڤيكاندر …… "
" أنسيت ؟ بيثاني ساحرة ڤيكاندر، والآن هي خادمة أوليڤيا المرافقة."
عند هذه الكلمات، ابتسمت بيثاني أيضاً و أومأت برأسها. كان وجهها مسروراً وهي تحافظ على موقعها الذي لم تستطع الوقوف فيه جيداً بسبب انخفاض المانا لديها بشكل ملحوظ .
" سموّه على حق، مهمة حماية قصر الدوق الكبير كانت مهمة، وكنت أحافظ على مكانك فقط يا سوبيل، يجب علينا أيضًا أن نستعيد أماكننا الأصلية تدريجيًا ! "
" هذا صحيح، الآن، منصب كبير الخدم يجب أن يكون من نصيب سوبيل، كبير خدم ڤيكاندر."
*
*
كيف يمكن لأحدهم أن يقول مثل هذه الكلمات الرائعة ؟
" هل الأمر كله يتعلق بالخبرة ؟ أم أن سمو الدوق الأكبر السابق حكيم بطبعه ؟ "
نظرت أوليڤيا إلى إدوين بقلب متأثر قليلاً، ثم أمالت رأسها. كان وجهه يبتسم بلطف كالمعتاد، لكن زاوية عينيه الجميلتين كانت مائلة بشكل يوحي بالضيق .
"… هل أنت منزعج من شيء ؟ "
" هل أبدو كذلك ؟ "
يا إلهي، صوته لم يكن طبيعيًا أيضًا .
فحصت أوليڤيا وجه إدوين بعينين مليئتين بالقلق، ثم انفجر إدوين في ضحكة عالية بسبب هذا الاهتمام الذي كان موجهًا إليه فقط .
" انظري، أنا سهل جدًا حقًا، مجرد هذا الاهتمام الجميل يجعلني أضحك، يا إلهي."
" هل هناك أي مشاكل أخرى ؟ "
أحب إدوين ضحكتها اللطيفة، فاتكأ عليها عن قرب وكأنه يتظاهر بالمرض .
" لماذا لا تكون هناك مشاكل ؟ آنستي على وشك أن تصبح مالكة لاثني عشر إقطاعية، يا لها من ورطة، آنستي يزداد غناها يومًا بعد يوم …… "
الكلمة التي ابتلعها في صمت كانت "ازدياد الانشغال". بالإضافة إلى اهتمام آنسته اللطيف تجاه الجميع، أن تعلق بها اثنا عشر إقطاعية كعبء …
تنهد إدوين، لكن من المؤسف، في هذه اللحظة، شعرت أوليڤيا أن تظاهر إدوين بالمرض كان لطيفًا جداً. لدرجة أنها أرادت أن تضايقه أكثر و تجعله يتذمر أكثر، وهي تنظر إلى عينيه الحمراوين الجميلتين تحت عينيه المائلتين.
لذلك خفضت أوليڤيا صوتها بمكر : " يا للورطة، أنا كنت غنية بالفعل."
" بالتأكيد، أنا أعرف، فجميع مناجم ڤيكاندر ملك لأوليڤيا."
" ليس هذا، بل منجمي الخاص من الأحجار السحرية."
اتسعت عينا إدوين فجأة. كانت هذه هي المرة الأولى التي تؤكد فيها أوليڤيا ملكيتها الخاصة بهذه الطريقة، هي التي قالت إنها ستعطيه حتى وثائق المنجم .
بينما كان وجه إدوين يشحب تدريجيًا بسبب الموقف الواضح كأنها ترسم خطًا فاصلاً، انفجرت أوليڤيا في ضحكة رنانة وكأنها لم تستطع التحمل، و قرصت أنف إدوين بخفة دون أن تؤذيه .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
" يا إلهي، لو كنت أعلم أنني سأرى مثل هذا الوجه المتفاجئ، لكان عليّ أن اضايقك سابقًا."
ثم قالت أوليڤيا بصوت رنان مليء بالضحك : " إنها مزحة، فقط … لقد طلب مني سمو الدوق الأكبر السابق ألا أخبر إدوين بخصوص تحويل كل المناجم حتى يتم الزواج."
" … تتحدثين عن مثل هذه الأمور مع أبي، هل أصبحتما قريبين جدًا ؟ "
" نعم ! "
نظر إدوين إلى أوليڤيا وهي تضيق عينيها بابتهاج، فشعر بصداع مفاجئ .
لم تكن الإقطاعيات المتزايدة في الخارج هي المشكلة إذن .
تمتم إدوين، الذي كبح لسانه، وسأل بابتسامة لطيفة مُصطنعة إلى أقصى حد : " … متى أصبحت قريبة جدًا من أبي هكذا، يا أوليڤيا ؟ "
دون أن تدرك العيون المتلألئة التي كانت تفحصها كالجواسيس، ابتسمت أوليڤيا ابتسامة خفيفة .
متى أصبحا قريبين هكذا ؟ يا له من أمر … حدثت موجة كبيرة في أفكار أوليڤيا التي لم تستطع تحديد اللحظة بدقة .
" في البداية، شعرت بالأسى لأن شعري أصبح أبيض مختلفًا عن شعر إدوين، ولكني قلت، ربما يكون هذا قدرًا لأن شعري يشبه شعرك يا أوليڤيا."
" … إنه سر."
أصبح أنفها رطبًا. نظرت أوليڤيا إلى إدوين بابتسامة نقية : " على أية حال، لقد أصبحت أنت أكثر ثراءً بكثير، يا إدوين، أنت ملك ڤيكاندر، التي تضاعفت إقطاعياتها بعشرين إقطاعية دفعة واحدة."
ملك … شعرت أوليڤيا بثقل المكانة التي تعكس وضع الدولة المستقلة.
تحمحمت أوليڤيا مرتين … إذن، ماذا سيكون وضعها ؟
قبل أن تغرق في أفكار ضخمة غامضة، هزت أوليڤيا كتفيها مرة واحدة، ثم أضافت على عجل : " إذا أصبحت مشغولاً جدًا، أخبرني بالتأكيد، لا أعرف ما إذا كنت سأستطيع المساعدة، لكنني سأبذل جهدي لبناء القدرة وسأساعدك بالتأكيد."
في تلك اللحظة، ارتفعت زاوية فم إدوين بنعومة، و لمعت عيناه الحمراوان داخل عينيه المائلتين بهدوء .
" يا لها من فكرة جيدة."
على تلك المجاملة الدافئة كشمس الربيع، ارتفعت شفتا أوليڤيا بابتسامة مشرقة .
****************************