" إذًا، ارتاحي جيدًا "
خرجت البارونة سوفرون. كان صوت إغلاق الباب ناعمًا و خافتًا. لم تكشف أوليڤيا عن يدها إلا بعد أن تأكدت من أنها أصبحت وحيدة، ففكّت المنديل بحذر عن معصمها .
" آه … "
خرجت منها تنهيدة خفيفة عندما رأت الكدمة وقد اختفت دون أي أثر. شعرت حينها بعمق معنى ما تحدثت عنه بيثاني : إبطال السحر .
" سأكون بانتظارك أمام القصر الإمبراطوري، وإذا خرج الفرسان برفقة يورجن، سأعطيك إشارة عبر لون الكدمة على معصمك، لكن، في حال دخلتِ القصر الإمبراطوري، فإن سحري سيُبطل مفعوله، في تلك الحالة، يجب أن تجدي طريقة لمقابلة الفرسان داخل القصر."
هذا هو سحر الحاجز الإمبراطوري : قوة جبارة تجعل أي سحر غير مُصرَّح به عاجزًا عن العمل .
انتشر صوت جرس يُعلن تمام الساعة. انتبهت أوليڤيا فجأة، وكأنها أفاقت للتو، فتوجهت نحو الشرفة و أطلت منها على الخارج .
كان السقف الفضي المستدير يتلألأ بعظمة تحت ضوء القمر، يحيط به الفرسان و الوصيفات الذين يتبادلون نوبات الحراسة في الموعد المحدد. ومن الطابق الأسفل للشرفة، كان يُسمع همس الخادمات .
" إذًا … "
رفعت أوليڤيا غطاء السرير و بدأت تتلمس الجزء العلوي من إطاره. في اللحظة التي لمست فيها أصابعها ملمسًا مألوفًا، ابتسمت .
لقد صدقت البارونة سوفرون حين قالت إن قصر تياجي بقي على حاله. حتى زي وصيفات قصر الأميرة، التي كانت مُخبأة ومثبتة بإحكام على إطار السرير، كانت في مكانها .
توقفت أوليڤيا التي كانت تسارع في إخراج زي الوصيفة. كان ذلك حين شعرت بموجة غريبة في نسيم الرياح القادم من نافذة الشرفة المفتوحة .
في لحظة عابرة، انكسر تدفق السحر. كان اضطرابًا في تدفق أكبر بكثير من سحر الحفظ الذي كان يغلف زهرة الكوبية الزرقاء، وشعرت بشيء مألوف …
هزّت أوليڤيا رأسها بقوة. ما يجب عليها فعله الآن ليس الانغماس في أفكار غير مؤكدة . هدفها الوحيد هو عودة الجميع بسلام، لا شيء غير ذلك .
*
*
كانت اهتزازات المشاعل المشتعلة تخترق سكون سماء الليل الهادئ .
في اللحظة التي شعر فيها وينستر بأن خطوات الأقدام على الأرض باتت مُتسارعة، قام بكتم فم يورجن و انحنى بجسده. شعر بأنين مُكبل بكف يده، لكن وينستر كان يراقب ما وراء الباب الحديدي الذي يصدر منه الصوت، وهو البوابة الأخيرة لسجن أورفيو تحت الأرض .
لو تمكنوا من اجتياز هذا الجدار الذي يضم الباب، لكانوا وصلوا بسرعة إلى الباب الصغير المؤدي إلى الخارج، ولكن فجأة، اقترب فارس وهمس بشيء ما، فانتفض الحراس المتراخون في أماكنهم .
" ماذا ؟ اقتحام … أمم ! "
" اخرس ! هل هذا شيء تفخر به ؟ "
بعد هذا التوبيخ العنيف، تبادل وينستر النظرات مع ديان و هوارد. لقد أدركوا على ما يبدو وجود متسلل . لو اكتشفوا الأمر بعد قليل، لكانوا قد غادروا المكان .
على الرغم من خيبة أمله، لم يكن هناك حيلة. نظر وينستر إلى يورجن الذي كان بالكاد يتنفس، ثم غمز يورجن بعينيه المتورمتين و المحمرتين.
" الأوغاد الإمبراطوريون ميؤوس منهم، معلومات الدوق الأكبر ثمينة جدًا، فهل ستُخفض قيمتها إذا حاولتم المساومة ؟ سأتساهل و سأمنحك أيها النبيل خصمًا مدى الحياة."
كم هو سريع البديهة هذا الرجل ! بسبب الكلمات التي قالها فور لقائه به في السجن، تقرر مصير يورجن بأن يبقى على قيد الحياة .
فحص وينستر الحراس بعينين متفحصتين . والشيء الجيد هو أنهم لم يكونوا يرغبون بإبلاغ المسؤولين عن وجود المتسلل، فكانوا يتناقشون فيما بينهم بحماس .
عندما تجاوزوا الباب هربًا من حديثهم حول توقع هوية المتسلل، ابتلع وينستر ضحكة متحسرة. كان عدد الحراس كبيرًا جدًا .
بسرعة، تفحص المنطقة، و وجد أن المكان الوحيد للاختباء هو مستودع صغير بجوار ساحة التدريب .
مكان يمكنهم فيه الإطاحة بالحارس و إفقاده وعيه إذا ما دخل للبحث، لكن بينما كان يسحب يورجن على عجل إلى داخل المستودع، أدرك وينستر أن حكمه كان خاطئًا .
مستودع يضم نافذة واحدة يميل عنها ضوء القمر، و مكدس فيه قفازات تفوح منها رائحة العرق الرطب و الجلد المتهالك. كان هذا المكان هادئًا بشكل غير عادي، والسبب هو أن شخصًا ما كان قد دخله بالفعل قبلهم .
تراجع وينستر، الذي كان على وشك المضي قدمًا للسيطرة على الدخيل. من خلال تدفق الهواء المحيط بهذا الشخص، شعر في تلك اللحظة الوجيزة بكفاءة من كان بين الدروع الحديدية .
لو كان في حالته الطبيعية، لكانت المنافسة متكافئة، ولكن الآن … خصم يصعب ضمان الفوز عليه .
تقدم ديان، الذي كان يتبعه، إلى الأمام أمام وينستر واتخذ وضعية دفاعية، لكن الخصم لم يكشف عن نفسه بسهولة. من المؤكد أنه رآهم عندما فُتح الباب .
تزايد التوتر بين القوتين، فكانت تتصادم بشدة كحد السيف .
في تلك الأثناء، اقتربت محادثة عصبية من خلف جدار المستودع .
" من يكون بحق الجحيم …! "
" لا أعرف ! على أي حال، افتح باب المستودع فقط."
ابْتَلَعَ وينستر ريقه دون قصد. لو سيطر ديان على الشخص الذي أمامهم، و سيطر هو و هوارد على الحارسين القادمين …
لكن في اللحظة التي تسلل فيها ضوء القمر إلى داخل النافذة، ألقى وينستر كل ما كان يفكر فيه جانبًا. و أغمض عينيه وفتحهما بهدوء، متأكدًا من معجزة لا تُصدق .
" … لماذا يتواجد من يجب أن يكونوا في السجن تحت الأرض في منطقتي ؟ و الأدهى أنهم تكاثروا ليصبحوا أربعة."
عيون بلون الجمشت تلمع بحدة و شعر فضي فاتح نوعًا ما، ولكنه ليس بجمال شعر الآنسة . وحتى الصوت الذي يزأر كما لو كان يطحن الكلمات .
على الرغم من نظراته الحاقدة التي لا توحي بالمعجزات، فكر وينستر للحظة وجيزة أن وجهه يشبه الآنسة .
حدق جايد مادلين بعيون غاضبة في وينستر كالتر الذي كان يرمش بذهول .
لقد كان يفكر مليًا في كلمات ولي العهد غير المنطقية بعد اجتماع النبلاء، ثم ظهر هؤلاء المتطفلون فجأة. والأدهى أن ثلاثة منهم من حمقى ڤيكاندر الذي يكرههم .
" … دخولي لهذا المستودع …… "
قال وينستر كالتر بصوت مبحوح وهو مرتبك. فجأة، ابتسم وجهه الغبي بإشراق .
" ربما، هو القدر الذي صنعته لي الآنسة."
" أيها المجنون …! "
" بسبب ولي العهد المجنون، اضطرت الآنسة للمجيء إلى العاصمة بالقوة، و ربما تكون قد دخلت القصر الإمبراطوري أيضًا."
توقف جايد عن تحريك غمد سيفه استعدادًا للهجوم بسبب الصوت الهامس. في تلك الأثناء، سُمع صوت فتح باب المستودع بعنف .
" لماذا لا ينفتح ؟ "
على الرغم من تساؤل الحارس بصوت خافت، لم يرمش وينستر وأكمل حديثه .
" باختصار، كل ما نريده هو أن نرافق الآنسة بسلام و نعود إلى إقطاعية ڤيكاندر، لكن … "
توقف صوت الباب المزعج للحظات. في خضم هذا الموقف الذي يكاد يُفزع القلب، نظر وينستر مباشرة في عيني جايد و تذكر النظرة التي كان يوجهها للآنسة .
" هل يمكنك مساعدتنا قليلاً ؟ "
" لقد انفتح …! "
في نفس لحظة صوت الحارسين وهما يفتحان الباب، دُفع وينستر بقوة و سقط على الأرض . كان جسده يتدحرج على الأرض التي يعلوها غبار كثيف، لكن وينستر ابتلع صوته و ضحك بخفوت .
" لو سارت الأمور بشكل خاطئ حقًا، فسنكون جميعًا منتهين، علينا أن نفتش كل …… مرحبًا، أحيي نائب القائد ! "
" … ما الأمر ؟ "
تبع تحية الحارس المفزوع صوت جايد الذي كان هادئًا للغاية .
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
" هل هذا منطقي ؟ أي أحمق يفتح باب القصر الإمبراطوري دون التحقق من الهوية ؟ "
كان ليل القصر الإمبراطوري، الذي كان من المفترض أن يكون هادئًا، غريبًا بعض الشيء . كان مختلفًا عن ليل القصر الذي اعتادت عليه أوليڤيا.
كان الحراس الذين يفترض أن يكونوا وقورين و صارمين يتبادلون أحاديث غير اعتيادية. سُمعت بضع كلمات مريبة وكأنهم لا يتحكمون حتى في نبرة أصواتهم .
" الأمر وكأنه تحت تعويذة حقًا … "
" يا لك من غبي ! هذا بسببك ! "
" المحاسبة لاحقًا ! هل تحققت من الجانب الآخر ؟ "
وضعت أوليڤيا قبعتها بعمق وأعادت ترتيب شالها بحيث يظهر بوضوح شعار قصر الأميرة. فمن غير المحتمل أن يقوم حارس بتفتيش وصيفة من قصر الأميرة، لكن قلقها كان يتزايد .
هل يا ترى انكشف أمر فرسانها وهم يهربون بيورجن ؟
كان الفرسان قد دخلوا منذ فترة طويلة، لكن هذه الكلمات …
لم تتمكن أوليڤيا من كبت اضطرابها، وأثناء النظر حولها، اتسعت عيناها .
" بيـ، بيثاني …! "
تسللت الكلمة التي لم تستطع كبتها خارج شفتيها. كان الشخص الذي يختبئ عند الجدار هي بيثاني بلا شك .
اندفعت أوليڤيا مسرعة نحو الجدار، متفادية عيون الحراس الذين كانوا يتفحصون المنطقة بحدة. احتضنتها بيثاني التي كانت عيناها متسعتين من شدة التوتر .
" آنستي، هل أنتِ بخير ؟ "
ردت أوليڤيا على بيثاني التي كانت تتصرف وكأن مكروهًا قد حدث لها : " بيثاني، أنتِ تحديدًا، كيف دخلتِ إلى هنا ؟ اتفقنا على ألا تفعلي."
هدأ قلق بيثاني لرؤية أن الآنسة تبدو بخير .
" لقد أرسلتِ الإشارة يا آنسة، لذا كنت قلقة جدًا و خائفة وظننت أن شيئًا قد حدث بالفعل."
" أنا ؟ لم أفعل شيئًا كهذا … "
في تلك اللحظة، تبادلت بيثاني و أوليڤيا النظرات بعد هذا الرد المباشر .
" … للحظة وجيزة، ظهرت ثغرة في سحر الحاجز، و تدفق منها نوع من الطاقة، هو ذاته الذي شعرت به عندما كنتِ تعالجين الدوق الأكبر السابق."
تَحركت شفتا أوليڤيا على كلام بيثاني. كان هذا هو ذاته ما شعرت به أوليڤيا قبل قليل .
" لولا ذلك، لما كان سحري ليؤثر على الحراس مهما حاولت."
" … هل يمكنكِ استخدام ذلك السحر الذي استخدمتهِ قبل قليل مرة أخرى ؟ "
تفحصت بيثاني المكان للحظة وهزت رأسها. لم تعد تشعر بتلك الثغرة في الحاجز . لا حيلة الآن . تفحصت أوليڤيا ملابس بيثاني، كانت داكنة اللون ولا تكشف عن هويتها .
لو كنت أعلم، لأحضرت شالاً آخر يحمل شعار الوصيفات. وفي خضم هذا الأسف المتأخر، كانت المشاعل تلوح في المكان بشكل صاخب .
بينما كانت أوليڤيا تختبئ بين الشجيرات و تراقب المنطقة بحثًا عن فرصة للانتقال سرًا مع بيثاني، تجمدت عندما رأت عينين تقابلانها .
زوج من العيون كان يحدق بها. إنها البارونة سوفرون. نظرت بعينين مصدومتين تتنقلان بينها وبين بيثاني .
هل كانت تتبعها ؟ شعرت بقشعريرة تجتاحها في تلك اللحظة بالذات .
" من هناك …؟ من أنتِ ؟ "
قطع المواجهة الغريبة صرخة حارس شاب . كان ذلك عندما اقتربت المشاعل بعد أن شعروا بحركة .
" أنا رئيسة وصيفات قصر تياجي، هل هناك أي مشكلة ؟ "
كان الموقف أكثر إرباكًا من أن يكتشفهما الحراس .
تقدمت البارونة سوفرون أمام الفارس بصوت واضح. كان شال الوصيفات ملقى بترتيب في مكانها حيث كانت البارونة واقفة، لا يعرف أحد متى أسقطته .
" آه، أعتذر، يا سيدتي."
" ماذا يجري ؟ كل هذا العدد من الفرسان في هذا الوقت من الليل ؟ "
" في الحقيقة … "
نظر الحارس الشاب حوله، ثم قام بمزج الكذب بالصدق ببراعة بسبب رتبة "رئيسة الوصيفات" و صوتها المهيب .
" … هل رأيتِ سيدة مريبة ؟ يبدو أن أحد العاملين في متجر للمواد الغذائية قد دخل القصر فجأة وفقد طريقه."
تنفسَّت أوليڤيا الصعداء نسبيًا وهي تسمع صوت الحارس المتلعثم. كانت هذه قصة بيثاني بالضبط .
يبدو أن الفرسان تمكنوا من الهروب بنجاح، ثم رمشت أوليڤيا بعينيها على ما قالته البارونة سوفرون بعد ذلك : " ألم يكن فتى قصير القامة بدلاً من سيدة ؟ أعتقد أنني رأيت طفلاً يركض في ذلك الاتجاه."
أشارت البارونة سوفرون بيدها نحو الباب الصغير، بينما أخفت يدها الأخرى خلف ظهرها و راحت تلوح بها بسرعة .
كان ذلك واضحًا تمامًا من مكانها .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
في هذه الأثناء، رمش الحارس و أجاب بصوتٍ مرتبك : " هل أنتِ متأكدة أنه الاتجاه الآخر ؟ وليس هذا الاتجاه ؟ "
فقد كان الاتجاه الذي سمع منه صوت الخطوات بوضوح يقع خلف موقع رئيسة الوصيفات الآن . على كلامه، ابتسمت رئيسة الوصيفات وكأنها سمعت شيئًا مسليًا للغاية .
" مستحيل، حتى لو كان المتسلل أحمق، فذلك الاتجاه يؤدي لقصر جلالة الإمبراطور، أليس كذلك ؟ لو رأى تلك الحراسة المشددة لأدرك على الفور أنه ضل طريقه و أبلغ عنه."
كان كلامها مقنعًا . أدى الحارس التحية لرئيسة الوصيفات مرة أخرى، ثم انطلق مسرعًا نحو الباب الصغير . لم تلتفت البارونة سوفرون إلا بعد أن تأكدت من اختفاء الحارس تمامًا .
اختفى شالها، و اختفت الآنسة، و اختفت السيدة الغريبة أيضًا .
لقد قامت بعمل لا يليق بأي شخص داخل القصر، لكنها لم تندم . بصفتها رئيسة وصيفات قصر تياجي، تكون قد قدمت آخر تقدير و احترام للشخص الذي كان الأجدر بالقصر .
أطلقت البارونة سوفرون تنهيدة هادئة .
نظرت إلى السماء لأول مرة منذ زمن، فكان القمر الذي غطته الغيوم ساطعًا بشكل استثنائي. تمامًا مثل السقف الفضي المتلألئ لقصر تياجي الذي أقسمت له بالولاء .
*
*
وفي تلك الأثناء، أطلقت أوليڤيا نفسًا حبسته وراحت تتفحص المنطقة حولها .
أمام قصر الإمبراطور، كان الجو المشحون بالاضطراب يلف المكان الذي كان يجب أن يكون هادئًا .
كان الخدم هم من يركضون في أنحاء القصر، حتى الأماكن التي لا يجرؤ الحراس على دخولها .
" مهلاً، أين ساحر البلاط في هذه الساعة من الليل ؟ "
****************************