ساد المكان صمت مخيف .
ظل النبلاء و الوفود، الذين غمرتهم الصدمة، يحدقون في مكان واحد بذهول .
الرجل ذو الشعر الأبيض الذي صعد بجرأة إلى العرش الشاهق و المقام الرفيع، كان يطغى على الأجواء بحضور أقوى من حضور الإمبراطور نفسه .
هل هذا حقًا هو الدوق الأكبر السابق لڤيكاندر … !
" اخرس ! "
في خضم هذا الموقف الصادم للجميع، دوى صوت عنيف بحدة، لقد كان ليوبارد .
" هل يعقل أن الدوق الأكبر السابق، الذي قيل إنه مات طوال عشر سنوات، يظهر الآن، وفي هذا التوقيت تحديدًا ؟ "
حدق في النبلاء بعينين حادتين وصرخ بأعلى صوته. ظهرت تعابير الارتباك على وجوه النبلاء بوضوح عبر الصمت المكسور .
ألقى ليوبارد نظرة خاطفة على العرش. كان الإمبراطور جالسًا على العرش السامي بوجه شاحب، وكأنه رأى شبحًا. هذا الموقف لن يفعل شيئًا سوى تقوية حجة هذا الرجل الذي يدعي أنه الدوق الأكبر السابق .
في مثل هذه الحالة، يجب على ولي العهد أن يتماسك، لذا رفع صوته أكثر : " لا أعرف من أين أحضرت هذا الشبيه، لكن حتى لون شعره لا يشبه لون شعر عائلة ڤيكاندر … ! "
" هل هناك أحد هنا لا يعرفني ؟ "
بدا الصوت الذي دوى في حلق الرجل منخفضًا وقريبًا جدًا . استدار ليوبارد و ارتعد فزعًا. في تلك اللحظة الخاطفة، كانت العينان الحمراوان للرجل الذي يدّعي أنه الدوق الأكبر السابق مرعبتين، لكنه تجاوز ليوبارد دون مبالاة ونقل بصره إلى النبلاء .
" لا توجد إجابة، أيها الكونت كومودي."
خاف الكونت كومودي الذي وجه إليه الدوق الأكبر السابق السؤال . للخروج من هذا الموقف، كان عليه أن ينكر ما سيسأله الرجل، لكن في اللحظة التي التقت فيها النظرات .
" تحدث، من أنا ؟ "
" سـ … سمو الدوق الأكبر ڤيكاندر."
أجاب الكونت كومودي وكأنه تحت تعويذة باستسلام . لقد ضغطه الخوف. هذه العيون الحمراء كانت قاسية تمامًا مثل الهيبة المخيفة للدوق الأكبر الحالي الملقب بالشيطان القاتل .
" يجب أن تقولها بوضوح، فالدوق الأكبر موجود هناك."
" سـ … سمو الدوق الأكبر السابق ! "
بعد الكونت كومودي، وجه الرجل ذو الشعر الأبيض السؤال نفسه إلى نُبلاء آخرين من ذوي الرتب العالية و الأعمار المتقدمة. وكانت الإجابة هي ذاتها.
بعد الإجابة الثالثة، عاد الرجل ذو الشعر الأبيض لينظر إلى ليوبارد. ابتسامة بطيئة على زاوية فمه وهز كتفيه كانتا مطابقتين تمامًا لابنه، الدوق الأكبر هذا .
" يبدو أنك الوحيد الذي لا يعرفني، يا سمو ولي العهد."
جف فم ليوبارد. حتى في هذا الموقف الذي حوصر فيه، كان على ليوبارد أن يلوم الدوق الأكبر السابق أولاً .
" … حتى لو كنت حقيقيًا، فلا يغير ذلك حقيقة أنك، يا مجنون الحرب، تسببت في مقتل العديد من الفرسان."
كان هذا الرجل مجرمًا في حق الإمبراطورية، تسبب في مقتل عدد لا يحصى من الفرسان . استعاد ليوبارد قوته وحدق في الدوق الأكبر السابق .
تمتم الدوق الأكبر السابق : " … مجنون حرب ؟! هل كانت هذه هي حجة وفاتي ؟ "
" ماذا تسمي شخصًا يصر على الانخراط في حرب كان مصيرها الخسارة على أي حال … "
" هاهاهاها "
صدح صوت ضحك حاد في القاعة، قاطعًا كلام ولي العهد . ليوبارد، الذي كان على وشك الانفجار غضبًا بسبب هذا الإذلال، لم يستطع أن يتابع كلامه و اكتفى بالرمش عندما التقت عيناهما .
" من قال أنني من قرر الانخراط في الحرب ؟ من هو الذي دفع بڤيكاندر إلى معركة تبدو متهورة للعيان، و وعد بتقديم دعم هائل ؟ والآن تحمّلني أنا المسؤولية ! "
توهجت كراهية عميقة فوق العينين الحمراوين بحدة. نظر النبلاء الذين استمعوا إلى غضبه إلى بعضهم البعض .
الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يقترح قيادة الحرب على الدوق الأكبر السابق، و الشخص النبيل الذي يمكنه أن يعد بدعم هائل .
عندما زادت النظرات المتوجهة نحو الإمبراطور، صرخ ليوبارد في عجلة : " كـ، كاذب ! من تتهم … "
" كيف يمكن أن ينتشر خبر 'حرب خاسرة على أي حال' بسرعة، على الرغم من مشاركة فرسان الإمبراطورية الأقوى في القارة، إذا لم يكن معروفًا مسبقًا أنها حرب لا يمكن الفوز بها ؟ كيف تجرؤ ! "
جلد ليوبارد بكلمات قاسية كالصقيع. بدا نبلاء الإمبراطورية و الوفود مصدومين وكأنهم تلقوا ضربة على مؤخرة رؤوسهم .
وفي هذه الأثناء، صرخ الدوق الأكبر السابق بحدة : " لا توجد حرب خاسرة على الإطلاق لفرسان الإمبراطورية الأقوى في القارة."
مجنون حرب انخرط في حرب خاسرة على أي حال. لطالما استُخدمت هذه الكلمات للحديث عن حماقة ڤيكاندر السابق. في اللحظة التي تُقال فيها هذه الكلمات، تختفي حقيقة مدى قوة الدوق الأكبر السابق لڤيكاندر، وسبب مشاركته في الحرب .
إذًا …… !
رفعت وجوه النبلاء و الوفود فجأة، وكانت تعابيرهم مذهولة. تحدث الدوق الأكبر السابق بهدوء، كاشفًا عن الحقيقة المروعة التي كانوا يتوقعونها على وجوههم تلك : " لكن الأمر سيختلف إذا كان هدف الحرب هو أنا."
نظر الدوق الأكبر السابق إلى تلك الوجوه واحدًا تلو الآخر، وفي النهاية، تحدث عن حربه الأخيرة المأساوية وكأنه يمضغها : " … الدعم الذي وعد به الإمبراطور، القوات الإضافية، وحتى نائب القائد الذي كان من المفترض أن يساعدني، كلهم دفعوني إلى وادي سينوا … "
" …… "
" حرب استهدفتني أنا فقط، استهدفت فارسًا مخلصًا للإمبراطورية."
لقد دفع الإمبراطور فارسه بنفسه إلى حتفه. تشكلت علاقة سبب و نتيجة واضحة ومروعة .
في هذا الموقف الصادم الذي لم يستطع فيه أحد أن يلتقط أنفاسه، كان هناك شخص واحد فقط يحافظ على التعابير ذاتها دون تغيير .
إدوين لوڤيل ڤيكاندر. عض بقوة على داخل خده. كان يشعر بطعم الدماء في فمه، لكنه لم يشعر بالألم. حتى عندما كانت الرؤية أمامه تتوهج باللون الأسود، كان عليه أن يتحمل و يصبر …
وظل يردد كلمات والده : " هناك شيء أريده أن يحدث قبل الحرب."
… لكي لا يقتل الإمبراطور على الفور .
" لقد سُرقت مني العشر سنوات التي كان يجب أن أعيشها بسبب الإمبراطور، ومن غير المعقول أنك كبرت بين عشية وضحاها وأصبحت رجلاً، و زوجتي … "
… ولكي لا يقضي على ولي العهد بسهولة .
" … لذلك، سأطالب بالثمن مقابل ما سُلب مني، عن طريق أخذ ما يرفضون التخلي عنه أكثر من أي شيء آخر، وبهذا، سأجعلهم يعرفون ولو قليلاً كم كانت تلك السنوات العشر المسلوبة ثمينة وغالية بالنسبة لي."
على الرغم من إصراره على ذلك من أجل والده، كانت الرؤية تومض أمامه .
كان الخط الذي يمسك بعقله مشدودًا لدرجة أنه كاد ينقطع في كل مرة يختنق فيها أنفاسه .
فجأة، أمسك يده دفئ صغير . انتشر الألم ببطء في راحة يده وسط درجة الحرارة الحنونة. كانت أصابعه تؤلمه من شدة قبضته على يده .
" ليس بعد، يا إدوين."
توجه صوت خافت نحو إدوين. ممسكة بإدوين الذي كان يميل إلى الأمام دون أن يلاحظ، ذكرت أوليڤيا كلمات الدوق الأكبر السابق مرة أخرى .
" هذه، هي حرب سمو الدوق الأكبر السابق."
*
*
في الصمت الذي ساد المكان، أغمض الدوق الأكبر السابق عينيه للحظة .
تباطأ قليلاً صدره الذي كان يعلو ويهبط بسرعة بسبب تنفسه المجهد .
الأمر لم ينتهي بعد. كان جسده، الذي لم يفق إلا قريبًا، يرتجف، لكن الدوق الأكبر السابق شد على ساقيه، ثم ضغط بقوة على صدره الأيسر وهو ينظر إلى الإمبراطور الجالس على العرش .
هذا الشخص الذي أقسم له يومًا بالولاء وأخلص له .
" ولم تكتفي الإمبراطورية بتشويه سمعتي، أنا القائد العام للحرب، و جعلي كمجنون حرب مندفع بشكل غير مسؤول … "
أخيرًا، استعاد الإمبراطور وعيه و واجه الدوق الأكبر السابق بنظره. هذا الوجه المكروه الذي دفع به إلى الموت .
امتزج الغضب و المشاعر و اشتعلا في صدره. حتى وهو يختنق، تذكر الدوق الأكبر السابق الوداع الأخير الذي أرسله له هالة الضوء الأخضر .
وتذكر بوضوح ما كان على أحبته أن يواجهوه في الأيام التي غاب فيها .
" بل و حملت عائلتي الباقية مسؤولية تعويضات هائلة."
في تلك الليلة التي بكى فيها الجميع، صعدت زوجة الدوق الأكبر، التي لم تستطع البكاء، إلى العربة وهي تحمل وثيقة منجم الكريستال الأبيض في محاولة لحماية ڤيكاندر .
" … و أرسلت ابني إلى ساحة المعركة منذ طفولته المبكرة."
ذلك الصبي الصغير، الذي كانت وجنتاه ورديتين و يبتسم دائمًا ببهجة، فقد ابتسامته وبدأ يقتل الناس بلامبالاة في ساحة الحرب .
وأخيرًا، صرخ الدوق الأكبر السابق و غضبه يغلي : " و تسببت في مقتل الدوقة الكبرى النبيلة … زوجة الدوق الأكبر ڤيكاندر التي جاءت لحماية العائلة، في هذا القصر ! "
" …… "
" ولم يكتفي بذلك، بل تحاول تشويه شرف ڤيكاندر بأسباب واهية لا أساس لها ؟ هل كنت تتوق إلى تدميري إلى هذا الحد ! "
" ادعاءاتك لا يوجد عليها دليـ …… "
" أنا الدليل بذاتي ! "
صمت ولي العهد الذي حاول التدخل بضعف أمام الصوت المأساوي الذي كان وكأنه يبصق دمًا .
نظر الدوق الأكبر السابق إلى ولي العهد. الرجل الذي كان يراه عبر رؤية ممزقة بالعروق الدموية كان شخصًا أحمق، غبي، و متغطرس، يظهر عليه بوضوح أنه نشأ آمناً تحت ظل الإمبراطور … هذا الرجل الذي طمع في نصيب ابنه و سلبه إياه في هذا الأمان .
لقد حان دوره الآن ليأخذ كل ما في قبضة ولي العهد ويعطيه لابنه .
" كيف لولي العهد أن يستمر في ترديد الأدلة الواهية بشأن أمور لم يعشها بنفسه قط."
كانت الكلمات التي أطلقها بين أسنانه قاسية ومخيفة. بينما تراجع ولي العهد أمام النية القاتلة العنيفة، استدار الدوق الأكبر السابق و نظر إلى النبلاء و الوفود.
حدقت فيه الوجوه العديدة بتوتر .
" لهذا السبب، لا يمكنني التحمل."
على نحو غير متوقع، كان صوت الدوق الأكبر السابق خاليًا من أي شعور : " لقد تحطمت عائلتي، و سلامي، و معتقداتي، وحبي و عدالتي إلى قطع صغيرة، و عاش أحبائي في عذاب و ألم."
" …… "
" هل لديكم أنتم اليقين بأن شيئًا كهذا لن يحدث لكم ؟ "
في تلك اللحظة، دبّت قشعريرة في جسد الدوق كيوال بأكمله. كان كلام الدوق الأكبر السابق صحيحًا .
كيف يمكن الوثوق بإمبراطورية تدفع حتى فارسها المخلص إلى حتفه ؟
بغض النظر عن علاقة التحالف، قد تعلن الإمبراطورية الحرب على هڤرتي مرة أخرى في أي وقت. عندما تذكر الدوق كيوال الألم الذي مزق أرضه بوحشية، عض شفتيه بشدة .
" بينكم أيها الباقون كحلفاء أبديين للإمبراطورية … "
كانت عيناه المفتوحتان واسعتين تنضحان بسنين من المعاناة. وكانت نبرته التحذيرية مرعبة .
أصبحت عينا الدوق الأكبر السابق، اللتان تحملان السخرية من الذات والعزم على ألا يُسلب منه أي شيء آخر، حادتين كأنها تريد اختراق الحاضرين .
" من سيكون عدوي التالي ؟ "
" هڤرتي … "
تقدم الدوق كيوال خطوة إلى الأمام. نظر إلى الدوق الأكبر السابق و إدوين، ثم إلى الإمبراطور و ولي العهد .
بين العيون التي كانت تتوقع أشياء مختلفة، أعلن الدوق كيوال من أجل بلده : " ترغب في أن يكون لها علاقة جيدة مع ڤيكاندر."
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
كانت تلك إشارة إيجابية لڤيكاندر . وفي الوقت نفسه، كانت بداية كابوس مروع بالنسبة للإمبراطورية .
ففي لحظات، انضمت أربع ممالك أخرى إلى ڤيكاندر. وبذلك وقفت خمس ممالك إجمالاً في صف ڤيكاندر .
نظر ليوبارد غريزيًا إلى ماريا إثيل .
" أوسلان ستـ …… "
' لا.' حرك ليوبارد شفتيه صامتًا .
فاض على وجهه الوسيم ملامح حزينة مثيرة للشفقة. شعرت ماريا بنظرته فتوقفت عن الكلام للحظة وهي تحدق في وجه ليوبارد .
كان وقت السير على حبل مشدود بين الأمل و اليأس طويلاً و مروعًا، لكن ليوبارد لم يتخلى عن الأمل .
هاتان العينان بالتأكيد تخصان ماريا إثيل. ليست عينا نبيلة أجنبية يصعب تذكر اسمها، بل عينا ماريا التي أحبته …
" تعتبر أوسلان عودة سمو الدوق الأكبر السابق لڤيكاندر مناسبة سعيدة للغاية."
رمش ليوبارد بعينيه. كان ما قاله الصوت المجلجل يتعارض تمامًا مع أمله. بدأ وجه ليوبارد يشحب تمامًا .
في اللحظة التي رأت فيها ماريا تيفيلس وجهه، شعرت بوخز في يدها التي جُرحت منذ زمن بعيد في غرفة ولية العهد .
شعرت بأن البؤس و الإذلال و المشاعر القذرة التي كانت تحيط بها في المكان الذي شُفيت منه جراحها قد تبخرت .
ابتسمت بإشراق. وبكل سرور، انحنت أمام الدوق الأكبر السابق وثبّتت الموقف بقولها : " وتتمنى تبادلاً وديًا مع ڤيكاندر."
انضمت أغلبية الدول الحليفة إلى عائلة الدوق الأكبر ڤيكاندر .
نظر الإمبراطور إلى قاعة المؤتمرات الكبرى وكأنه يبتلع سمًا. كان الحاضرون منقسمين إلى مجموعتين، يقفون على جانبين مختلفين، وكأنهم انحازوا بالفعل .
ما كان يدفع الإمبراطور إلى الجنون هو حلفاؤه المترددون. ابتلع الإمبراطور أنفاسه وهو يرى الممالك التي كانت تأمل التبادل مع ڤيكاندر .
أمام هذا الواقع الذي لا يصدق، لم يكن أمامه سوى كلمة واحدة ليقولها : " … ماذا تريد ؟ "
كان من الخطر أن يخسر المزيد. كان يريد أن يعطيه ما يشاء لكي يرسله بعيدًا الآن، لكن إجابة الدوق الأكبر السابق، التي رفع بها شفتيه ملتوية، قبضت على خناق الإمبراطور مرة أخرى .
" هل يمكنك أن تعيد إليّ سنواتي العشر التي فقدتها ؟ "
****************************