كانت السماء زرقاءً لدرجة أنها تكاد تؤلم العينين .
توقفت أوليڤيا لتتأمل السماء بهدوء. وكلما رفعت رأسها، داعبت خصلات شعرها الفضي الناعم عنقها . اختلطت رائحة البرودة بنسيم الهواء، و ربما كانت رائحة حقول القمح الناضجة .
فمنذ أن غادرت إلى إقليم ڤيكاندر، بدأت تظهر لمحات ذهبية متناثرة فوق السهل الأخضر .
رغم أن غداء اليوم كان شطيرة، لكنها ليست مثل تلك التي أعدتها مارثا، إلا أن إدوين كان على حق حين قال : " إنها ليست كالنزهة، بل هي نزهة حقًا."
ضحك الفرسان وهم يتبادلون المزاح بعد أن جلسوا، كان الضحك مفعمًا بالبهجة. حتى الخيول التي كانت تأكل العشب بهدوء، و سنابل القمح التي تتمايل مع الريح، كل شيء كان يعكس جوًا مريحًا .
الطريق إلى ڤيكاندر كان دائمًا أشبه بنزهة، حتى في هذه العودة السريعة، كان الجو هادئًا .
ابتسمت أوليڤيا دون وعي و نظرت إلى جانبها، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة أخرى . الشيء الوحيد الذي كان ينقص هذا المشهد المثالي هو إدوين.
و رغم أنها كانت تعلم ذلك، إلا أنها نظرت إلى الفراغ بجانبها ثلاث مرات .
شعرت أن نسمة هواء باردة مرت عبر قلبها . لقد مرت ساعات فقط على افتراقهما، ومع ذلك، هزّت أوليڤيا رأسها ببطء، و حاولت التفكير في أشياء أخرى. مثل فوائد مغادرتها إلى مقاطعة ڤيكاندر قبله .
كان من الجيد أنها ستتمكن من رؤية سكان ڤيكاندر في وقت أبكر، وكانت متحمسة لإمكانية العثور على السر المخفي في منجم الكريستال الأبيض، و شعرت براحة أكبر بمجرد مغادرتها العاصمة .
تلاشت الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها للحظة. لماذا شعرت بالاضطراب بمجرد تذكر العاصمة ؟
تذكرت وجه إيسيلا التي بدت حزينة عندما ودعتها على عجل، و تذكرت سالي وهي تبكي، لكن هذا الشعور كان أعمق قليلاً، شيء لم تختبره أوليڤيا من قبل …
بمجرد التفكير فيه، كان يجعلها تشعر بعدم الارتياح … هزّت أوليڤيا رأسها بسرعة .
لقد قطعت كل الروابط، فلماذا ترهق نفسها عاطفيًا ؟
كانت أوليڤيا تعلم أنه لا جدوى من ذلك، لذلك تجاهلت قلبها الذي كان يضطرب . ومع ذلك، شعرت وكأنها تسمع أصواتًا تناديها بيأس، فأمسكت بقوة بالبطانية التي تغطي ركبتيها .
سرعان ما نظرت حولها بحثًا عن شيء آخر يشتت أفكارها، وفي تلك اللحظة رأت وجه ديان، و ابتسمت ابتسامة خفيفة .
متى أصبح وجهه الحذر، هادئًا لهذه الدرجة ؟
كانت عيناه تحدقان في حقل القمح و ترمشان ببطء. عندما لاحظ نظرتها، احمرّ وجه ديان . على الرغم من أنها كانت تعتقد أن منظره وهو يحدّق في السهل كان لطيفًا، بدأ ديان في الدفاع عن نفسه وكأنه قد وقع في موقف محرج .
" أنا لا أتراخى عن الحراسة أبدًا، لكن الجو هنا هادئ و جميل، لم تسنح لي الفرصة لأرى مثل هذا المنظر من قبل … "
" حقًا ؟ سترى المزيد على الطريق، يبدو أنك تحب النزهات، يا ديان "
على عكس ابتسامتها المشرقة، كان العرق يتصبب من ظهر ديان. فكلامه كان يوحي بأن مثل هذه المناظر الطبيعية الجميلة لا توجد في ڤيكاندر .
ولكن لا يوجد أحد من نبلاء العاصمة قد رأى قساوة الشمال أكثر من أوليڤيا، لكن ديان الذي لم يكن يعلم ذلك، كان قلبه ينقبض .
' هل من الممكن … أنها تشعر بالحزن لعدم رؤية مثل هذه المناظر في ڤيكاندر ؟ لهذا السبب بدا وجهها غريبًا عندما كانت تأكل شطيرة الديك الرومي ! '
ديان الذي أخطأ في فهم الأمر، سارع بالكلام .
" … في الحقيقة، لا يوجد مكان هادئ مثل إقليم ڤيكاندر، هاهاها، كما تعلمين بالفعل يا آنستي "
كان يتحدث بوضوح وكأنه يقرأ من كتاب. وبما أن تعابير وجه ديان كانت واضحة جدًا، أخفت أوليڤيا ضحكة ماكرة و سألته كأنها لا تعلم .
" حقًا ؟ يا إلهي، لم أكن أعلم ذلك، كنت دائمًا أتساءل عما وراء المنجم عندما ذهبت لأراه "
ماذا يوجد خلف المنجم ؟ المنظر الواضح كان مجرد جبل صخري أجرد. حتى في منتصف الصيف، لا ينمو فيه العشب .
يبدو أن ديان أيضًا تذكر الجبل الأجرد خلف المنجم، و رمش بعينيه بوجه أحمق. وعندما كانت أوليڤيا على وشك التوقف عن المزاح، لأن لون بشرته كان يميل إلى البياض ببطء .
" هذا … ! "
كان صوته فجأة عاليًا، وبينما كان الفرسان القريبون يستديرون ليروا ما يحدث، تابع ديان كلامه .
" … ألا يقولون أن اللوحة تكون أغلى كلما كان فيها فراغات جمالية ؟ "
كانت هذه عبارة تنطبق على بعض الأعمال الفنية، لكن ديان جعلها تبدو وكأنها قاعدة عامة .
كانت عينا الآنسة التي تنظر إليه تبتسم. ربما كان دفاعه سينجح .
" تضاريس ڤيكاندر، بها فراغات جمالية طبيعية، لذا هي منعزلة جدًا، وأيضًا … "
" وأيضًا ؟ "
" وأيضًا … هناك الكثير من الأنهار و البحيرات، و مباني شارع سوناري ملونة و جميلة، وأيضًا … "
استمر في تعداد ميزات إقليم ڤيكاندر .
إلى متى سيستمر ؟ ابتسمت أوليڤيا التي كانت تستمع باهتمام، وعندما بدأت تلك الميزات تتضاءل تدريجيًا .
" سير سيزيلين "
توقف ديان عن الكلام عندما ناداه صوت خافت من جانبه. كان المكان هادئًا. قال أحد الفرسان الكبار بصوت بدا وكأنه يكبت شيئًا ما.
" يمكنك التوقف، لا داعي لذلك، لقد وصلت رسالة حبك لـ ڤيكاندر للآنسة بوضوح."
" ماذا ؟ "
" على أي حال، الآنسة رأت كل شيء تقريبًا أثناء زيارتها للمقاطعة."
لم يدرك ديان أن الآنسة كانت تكتم ضحكتها إلا عندما صُدم من كلام الفارس، و أدرك أيضًا أن الفرسان من حوله كانوا يكتمون ضحكهم أيضًا .
بدأ وجه ديان بالاحمرار. وفي نفس الوقت، انتشرت ضحكات خافتة .
" لحسن الحظ أننا وحدنا هنا، لو كان السيد إنترفيلد أو السيد كالتر هنا، لربما حصلت على جائزة "أفضل فارس محب لـڤيكاندر"."
لم يكن هذا الكلام فيه أي مواساة. ابتعد الفارس الذي كان يربت على كتفه. ومع الضحك العالي، بدأ الفرسان بالدردشة مرة أخرى .
" آه حقًا، لو كنتم أصدقائي، لكنتم أخبرتوني مسبقًا."
وبعد أن أصبح ديان الشخص الذي فشل في الدفاع بشكل مبالغ فيه، عبس و نظر بغضب حوله .
أوليڤيا، التي رأت خلف أذني ديان الحمراوين من الخجل، ضحكت قليلاً بينما كان الفرسان من حوله يتجنبون نظره .
" قصص ديان كانت مثيرة للاهتمام للغاية، ربما كان لدي أيضًا أمل في سماع شيء جديد، بعد كل شيء، أنت نائب قائد الفرقة الثالثة من الفرسان يا سير سيزيلين "
بسبب هذه الكلمات، هدأت مشاعر ديان بسرعة و ضحك، ثم أومأ برأسه بشكل مبالغ فيه و خفض صوته .
" هذا صحيح يا آنستي، في آخر شتاء، عندما كنت في مهمة للقضاء على الوحوش، اكتشفت واديًا تتدفق فيه مياه زرقاء صافية، أليس هذا أمرًا مدهشًا ؟ "
لمعت عينا أوليڤيا عند سماع كلماته المتحمسة. كان كلامه غريبًا. فما لم يكن الوادي متصلاً بالبحر، فإن المياه تتجمد في فصل الشتاء. و منطقة ڤيكاندر، كونها محاطة بالجبال في الداخل، أمر مؤكد .
لكن لم يكن هناك سبب يدعو ديان للكذب .
' هل يمكن أن يكون هذا مرتبطًا بسر منجم الكريستال الأبيض ؟ '
فجأة، ابتسمت أوليڤيا و هزّت رأسها. كانت كل أفكارها الآن تقود إلى منجم الكريستال الأبيض.
' لا يمكن أن يكون الأمر كذلك '
" أنا الوحيد الذي رأى هذا المكان، لو لم أرى الدخان، لما تجرأت على دخول وادي سينوا، إنه مكان محظور، بالإضافة إلى أنه منذ القدم، كان مكان … للشياطين "
" الشياطين ؟ "
" أوه، ماذا قلت للتو ؟ "
بمجرد أن نطق بالكلمة، قفزت ذكرى غامضة كانت مخبأة في عقله. كان الأمر غريبًا، وكأنها ذكرياته الخاصة، لكن شخصًا آخر أخفاها عنه بإحكام .
على عكس وجه ديان الذي شحب فجأة، تحدثت أوليڤيا بهدوء : " مثير للاهتمام، وادي سينوا "
" أنا … يا آنستي، ذلك المكان … "
" فارس شجاع مثلك، أيها السير سيزيلين، هو الوحيد الذي تجرأ على الذهاب إلى منطقة محظورة."
" إنه … لأنني وجدت الأمر غريبًا أن يكون هناك دخان في الشتاء … ! "
" دخان ؟ هذا حقًا شيء يجب التحقيق فيه، أليس كذلك، يا سير سيزيلين ؟ "
منذ لحظة، كانت الآنسة تناديه بلقبه "السير سيزيلين" مرة أخرى .
عندما ظهرت هالة من البرودة على وجهها الجميل المبتسم، استقام ظهر ديان . بدا وجهه المعقد وهو يكبت هذا الإحساس بالضغط .
هل يجب أن يقدم نصيحة أم يطيع أمرها ؟
تحدثت أوليڤيا ببطء .
" ما هو مصدر الدخان ؟ "
" … أنا آسف، لم أتمكن من التأكد."
" لماذا ؟ "
على هذا السؤال الذي لا يحمل نبرة، عض ديان على شفتيه. عندما فكر في الأمر الآن، بدا وكأن جزءًا من ذاكرته في ذلك اليوم قد مُحيت . وهذا لا يشبه ديان سيزيلين، الذي كان دائمًا دقيقًا في إنجاز مهامه حتى النهاية .
' ماذا حدث ؟ ' بدا الأمر كما لو أنه تحت تأثير تعويذة. ' هل رأيت حقًا دخانًا غريبًا في ذلك اليوم، وهل ذهبت حقًا إلى وادي سينوا ؟ '
أصبح متوترًا، وكان بصره يتجه للأسفل . لمح شيئًا يلمع بقوة على عنق الآنسة، لكنه لم يكن لديه وقت للاهتمام بذلك .
" هل هناك أحد غيرك يعرف هذا الأمر ؟ "
" لا أحد … لا،… لا أعرف حقًا "
كان جوابه المتردد أكثر صدقًا. كان الارتباك يملأ عينيه البنيتين، ولم يستطع حتى مواجهة نظرة أوليڤيا.
" هذا غريب … "
نقرّت أوليڤيا على البطانية بأظافرها ببطء .
مكان خطير لدرجة أنه يلقب بـ "وادي الشيطان". لكن مع كل كلمة من ديان، أصبح الأمر أكثر إثارة للريبة .
" مكان غريب بذكريات غامضة، أعتقد حقًا أننا بحاجة للتحقيق، ما رأيك، يا سير سيزيلين ؟ "
" إذا أصدرتِ أمرًا، سأذهب و أحقق بنفسي، أعطيني فرصة لأصلح خطئي، يا آنستي "
كان صوت ديان حازمًا . وادي سينوا، لم يفكر أبدًا في الذهاب إلى هناك إلا بالصدفة. وادٍ عميق و خطير تتجنبه حتى الوحوش .
لكنه يستطيع الذهاب إذا كان الأمر بأمر من الآنسة. بينما كان ديان يسترجع في ذهنه مدخل وادي سينوا بعينين حادتين .
" إذا أردت الذهاب بنفسي، هل سترافقني، يا سير سيزيلين ؟ "
" يا آنستي، ذلك المكان خطير جدًا ! "
" سأذهب فقط إلى المدخل، ولن أدخل أبدًا إذا كان خطيرًا، هل تريدني أن أعدك ؟ "
بوجه يظهر عليه براءة مصطنعة، كانت الآنسة تكذب .
— الصورة التوضيحية : هـنـا .
في حيرته، لم يستطع ديان أن يقول شيئًا . وبينما كانت أوليڤيا التي تكذب بوضوح تنتظر الإجابة .
" آنستي …! "
كان الصوت العالي مألوفًا .
قفزت أوليڤيا على قدميها و نظرت حولها، و انزلقت البطانية .
عربة قادمة بسرعة من اتجاه إقليم ڤيكاندر، و الشخص الذي يظهر من النافذة هو …
" … بيثاني ؟ "
كانت بيثاني، لم تصدق أوليڤيا ذلك .
بشعور غامر، ركضت أوليڤيا نحو العربة . وفي لحظة، تغيرت تعابير وجه بيثاني التي نزلت من العربة على عجل .
" آنستي، ما هذا الذي على معصمك … ! "
في عينيها، ظهر معصم أوليڤيا باللون الأرجواني تحت كم الفستان المنسدل .
****************************