" لا تضحكني ! منذ متى كان اللورد آرتشي شخص يمكن الوثوق به إلى هذا الحد ؟ "
كان آرتشي و آش يقتحمان المكتب منذ فترة، يجادلان بشدة و يتخاصمان حول من هو على صواب ومن هو على خطأ، حتى ظهرت عروق الرقبة لديهما .
لم تكن سيرفيليا تملك المهارة لفض النزاع بينهما، فقررت الانتظار حتى يهدأ الأمر، لكن لم تظهر أي علامة على اقتراب النهاية .
قامت سيرفيليا بتقليب فنجان الشاي الذي أصبح بارداً بالفعل، و تدخلت في المحادثة الصاخبة .
" هل توصلتما إلى اتفاق ؟ "
" الأمر يا جلالة الملكة ! هذا الوغد …… ! "
" رجاءً استمعي إليّ يا جلالة الملكة ! "
" … واصلا الاتفاق بينكما."
تركت سيرفيليا الشخصين اللذين كانا على وشك شد شعر بعضهما البعض و غادرت المكتب .
شعرت وكأن أذنيها ستنفجران من قتال هذين الرجلين الصاخبين إذا استمرت في الاستماع .
مشيت في الممر الهادئ و توقفت أمام نافذة كان يتساقط منها ضوء الشمس بشكل خاص . جلست بشكل عرضي على عتبة النافذة و أخرجت رسالة من جيبها .
كانت رسالة قديمة، لكن بسبب مساعديْها اللذين لا يتفقان، لم تجد وقتاً لقراءتها .
عندما وجدت السلام أخيراً، فتحت الرسالة التي أرسلتها صديقتها العزيزة .
في الرسالة المطوية بدقة، كانت مكتوبة بخط يد عتيق جداً :
[ سيرفيليا .
تلقيت الرسالة التي أرسلتِها مؤخراً جيداً . شكراً على الهدية المرفقة . سأحتفظ بها معي دائماً و أستخدمها وأفكر فيكِ يا سيرفيليا .
يسعدني أنكِ ما زلتِ تعتبرينني صديقة لكِ حتى بعد أن أصبحتِ ملكة … ]
كانت هذه رسالة تشاسترتي .
بعد رحيلها في المرة الأخيرة، لم تلتقي بها مرة أخرى، لكنها كانت ترسل لها رسائل بين الحين و الآخر .
عند سماع أخبارها، كانت سيرفيليا تشعر بالرضا .
[ … أنا أتعلم مهارات طبية جديدة، حتى لو لم أستطع استخدام القوة المقدسة، أريد مساعدة المرضى . ربما هو نوع من التكفير .
أعتقد أنه إذا بذلت قصارى جهدي، سيأتي يوم أستطيع فيه مساعدتكِ أيضًا ]
" إنه لأمر عجيب حقًا "
لقد عاشت حياتها كلها من أجل الآخرين وما زالت ترغب في ذلك . حتى لو لم تعد قديسة، يبدو أن طبيعتها الفطرية لن تتغير .
[ … إذاً، ابقي بصحة جيدة حتى نلتقي مرة أخرى .
ملاحظة : إذا كنتِ تريدين أن تسأليني عن شيء يتعلق بالذاكرة، يمكنك زيارتي في أي وقت .
— صديقتكِ، تشاسترتي فريل ]
قرأت سيرفيليا الرسالة مرتين مجددًا ثم طوتها إلى نصفين و وضعتها في جيبها .
تشاسترتي فريل، كان هذا اسمها .
الآن لن تعيش كقديسة أو أي شيء آخر، بل ببساطة كتشاسترتي فريل . شعرت سيرفيليا بفخر، ثم نهضت فجأة و سرعت خطواتها خارج القلعة .
' الذاكرة …… '
تمتمت في عقلها الكلمات التي أضيفت في نهاية الرسالة مرة أخرى .
على أي حال، كانت سيرفيليا تفكر مؤخراً أن شيئاً ما غريب يحدث .
كان هناك فراغ في الذاكرة، اختفى دون أي أثر وكأن شخصاً ما قطعه بالمقص . أحياناً كانت تحلم بنفس الحلم المألوف عدة مرات، لدرجة أنها كانت تحتار إذا كان حقيقة أم مجرد حلم .
كان أغرب حلم هو ذلك الذي تظهر فيه أميرة ذات شعر فضي .
كان حلمًا يراودها منذ طفولتها، لكن محتوى الحلم تغير فجأة ذات يوم .
سيرفيليا الصغيرة تهزم الوحوش، تمر عبر المستنقعات و الغابات و تصل إلى قلعة ملك الشياطين .
تتسلق الدرج العالي وتمر عبر الممر الطويل لتصل إلى مكان … لم تكن فيه الأميرة .
كانت هناك أميرة ذات شعر فضي طويل تنتظرها دائمًا، إلى أين ذهبت بحق خالق الجحيم ؟
ربما لم تعد الأميرة بحاجة إلى المساعدة . ربما أنقذها شخص آخر غيرها بالفعل . عند التفكير في ذلك، شعرت بالراحة، لكنها شعرت أيضاً ببعض الأسى .
هل هذا يعني أنها لن تراها مرة أخرى أبداً ؟
" آه، فاجأتني "
عندما خرجت من البوابة الرئيسية، كادت أن تصطدم بشخص كان يقف أمامها مباشرة . بالكاد تفادت الاصطدام وعندما نظرت، كانت آريا .
فزعت آريا أيضاً و أسقطت شيئاً من بين ذراعيها . كادت سيرفيليا أن تلتقطه دون تفكير، لكنها صرخت و تراجعت إلى الخلف.
" يا إلهي ! من قال لكِ أن تحضري هذا إلى القلعة ؟ "
كانت أطرافًا مقطوعة لوحوش . جمعت آريا الأطراف التي كانت تقطر دماً على عجل و حشرتها بالقوة في حقيبة قماش كبيرة .
بدا أن شيئاً ضخماً جداً كان داخل الحقيبة، حيث كانت تسحب على الأرض بثقل .
أمسكت سيرفيليا برأسها الذي كان ينبض بالألم . رفضت آريا العودة إلى برج السحرة حتى بعد انتهاء الحرب .
أعلنت أن دراسة الوحوش في الشمال تناسب طبيعتها تماماً و سجلت اسمها كساحرة تابعة لـلانغفول من تلقاء نفسها .
" لكن إذا اكتشف مونبلان ذلك، ستكون مشكلة كبيرة، رجاءً يا جلالة الملكة، خبئيني "
المشكلة هي أن مونبلان يكره تماماً أبحاث الوحوش التي تقوم بها هذه الساحرة غريبة الأطوار . لهذا السبب سمعت أن كوينتين، الذي كان في الوسط، عانى كثيراً .
أشارت سيرفيليا إلى الحراس الملكيين الذين كانوا يلاحقونها على مسافة . اقترب الفرسان بوجوههم الجادة، و بدوا في حيرة عند رؤية الحقيبة القماشية الملطخة بالدماء .
"خذوا هذه الحقيبة و اوصلوها إلى الملحق."
" جلالة الملكة، هذا بعض الشيء …… "
" هيا، التقطوها بسرعة و اتبعوني ! من هنا ! "
غرقت رغبة الفرسان الملحة تماماً في صوت آريا المفعم بالحيوية . دفعت آريا ظهور الفرسان بحماس و اختفت في الاتجاه المعاكس .
وأخيراً، تخلصت سيرفيليا من الحراس الملكيين، و تمددت بقوة لفك تيبس جسدها .
استمتعت بنزهة هادئة على طول الممر الصغير في الحديقة .
كان الهواء بارداً، لكن أشعة الشمس كانت دافئة . أغمضت سيرفيليا عينيها و استمتعت بالضوء لفترة طويلة .
كانت أيامًا عادية بكل معنى الكلمة . مستشاران يتشاجران بصخب، و ساحرة تسبب المشاكل طوال الوقت، و ……
" هل كنتِ هنا ؟ "
حتى أرشيدوق الشمال، الذي كان يعثر عليها فوراً أينما اختبأت .
" أرشيدوق "
سار الاثنان جنبًا إلى جنب في صمت إلى عمق الحديقة . مرا بجانب الجناح الذي كانا يحتسيان فيه الشاي أحياناً، و مرا بالمكان الذي طُبعت فيه آثار أقدام التنين الضخمة .
في الوقت الذي لم يكن فيه حديث سوى صوت وطأة الأقدام على الثلج . قال لوسيان بصوت منخفض :
" جلالة الملكة، هل تتذكرين اليوم الذي تقدمتِ فيه لطلب الزواج ؟ "
" بالطبع أتذكر "
ارتفع طرف شفاه سيرفيليا قليلاً . كيف يمكنها أن تنسى الأيام التي كانت فيها تزعجه و تثير الفوضى بكل طريقة ممكنة ؟
ربما كانت أسعد و أكثر اللحظات إثارة في حياتها .
وجهه الذي كان يحمر خجلاً و ارتباكاً عند كلمة واحدة، يده التي كانت تتجول بلا وجهة . وفي نفس الوقت، نظرته التي كانت ثابتة عليها . حتى لو تقدم بها السن و أصابتها مشاكل في الذاكرة حقاً، فلن تنسى تلك الأيام أبداً .
" أليست أول تجربة لي في الحب غير المتبادل ؟ لن أنسى ذل تلك الأيام حتى يوم مماتي … على أي حال، التعامل مع رجل وسيم و متغطرس ليس بالأمر السهل "
ضحكت سيرفيليا بمزاح و نظرت إليه، لكن بشكل غير متوقع، كان وجهه جدياً للغاية .
" أريد أن أعطي الإجابة التي لم أستطع إعطاءها حينها."
" إجابة ؟ أي إجابة … ؟ "
بينما كانت سيرفيليا مذهولة، ركع لوسيان على ركبة واحدة أمامها .
تحركت تفاحة آدم المتوترة لديه بشدة و ابتلع لعابه، ثم فتح شفتيه المرتعشتين .
" سأجعلكِ سعيدة، لن أدع قطرة ماء تلمس يديكِ، و سوف ننجب حوالي خمسة أطفال … "
عند هذه النقطة، لم تستطع سيرفيليا أن تتمالك نفسها و انفجرت ضاحكة بصوت عالي .
كان يرد بجدية على الهراء الذي قالته عندما تقدمت هي بطلب الزواج . أما لوسيان نفسه، فلم يبتسم على الإطلاق و واصل حديثه بوجه جاد :
" … سأبذل قصارى جهدي، سأعطيكِ كل شيء، فقط اسمحي لي بالبقاء بجانب جلالتكِ "
احمرت وجنتاه البيضاوان . لم يستطع حتى أن يلتقي بعين سيرفيليا بشكل صحيح، وكان ينظر فقط إلى مكان ما بين أنفها و شفتيها .
أدارت سيرفيليا رأسها للحظة بسبب الخجل غير المبرر . عندما هبت رياح الشتاء، تناثر الثلج المتراكم على أغصان الأشجار، و دخل الهواء البارد أنفها وملأ رئتيها .
لقد دخلت البلاد الآن بشكل كامل في طقس الشتاء . برودة الشمال اللاذعة لامست خدها، لكن لسبب ما شعرت بحرارة على وجهها .
كانت باردة أم حارة ؟ لم تستطع أن تقرر، و حاولت تلطيف هذه اللحظة المحرجة بدعابة .
" يقولون أن الشجاع هو من ينال الجميلة، لم يكن ذلي في ذلك اليوم عبثًا، انهض، أيها الأرشيدوق، الأرض باردة "
" يجب أن تعطيني الإجابة أولاً حتى أتمكن من النهوض."
أمسكت سيرفيليا ذراعه و سحبته، لكن لوسيان قاوم بعناد في مكانه .
عند رؤية نظراته الجادة، شعرت أنها لم تستطع الهرب أكثر . أخرجت بهدوء صندوقاً صغيراً من جيبها .
كان خاتماً مرصعاً بجوهرة تشبه عيني لوسيان الزرقاوين تماماً . لا تعرف كم عانت للعثور على لون مشابه قدر الإمكان .
لقد فكرت لأيام و ليالٍ متى يجب أن تعطيه إياه، ولكن يبدو أن الوقت قد حان الآن.
سعلت سيرفيليا قليلاً و أمرت لوسيان أن يعطيها يده . مد يده إلى سيرفيليا على الفور، و برقت عيناه بترقب .
ببطء، وُضع الخاتم في اصبعه . على عكس المرة السابقة، كان المقاس مثالياً .
" ابقى بجانبي، تعال عندما أقول لك أن تأتي، و تعال عندما أقول لك أن تذهب، للمعلومة، هذا ليس إذناً، بل أمر، أيها الأرشيدوق "
لم تكن الكلمات حلوة أو رومانسية مثل تلك التي في روايات الحب المعتادة، لكن لحسن الحظ، بدا أنها أعجبت لوسيان تماماً .
لم يستطع إخفاء سعادته، و رسم ابتسامة أسعد إنسان في العالم .
" كيف يمكنني أن أعصي أمر جلالتكِ ؟ "
نهض لوسيان من مكانه و احتضنها بين ذراعيه .
لفت سيرفيليا أيضاً ذراعيها حول خصره و أسندت وجهها على صدره، ثم استنشقت بعمق رائحة الشتاء التي علقت بملابسه .
كان غريباً أن تشعر بالحماس في كل مرة تحتضنه و يحتضنها . يبدو أن هذا الشعور لن يصبح مألوفاً أبداً طوال حياتها .
تلمست سيرفيليا بأصابعها أزرار عباءة لوسيان وقالت :
" يجب أن نقيم حفل زفاف فخم، براقاً و جميلاً للغاية، بحيث تبهر العيون بمجرد النظر إليه "
" بالطبع، ما زلت أشعر بالضيق لأننا لم نقم بحفل خطوبة."
" لا، ليس هذا، بل يجب أن أرى شكلك وأنت ترتدي ثيابًا رسمية فاخرة."
" أحياناً أفهم ذوق جلالتكِ وأحياناً لا أفهمها، أنتِ لا ترتدين مثل هذه الملابس كثيراً بنفسكِ "
" هذا لأن متعة هذه الملابس في خلعها أكثر من ارتدائها."
" جلالة الملكة."
" إنها مزحة "
في الحقيقة كانت صادقة في قولها . ابتلعت الكلمات الأخيرة، لكن لوسيان بدا وكأنه فهم كل شيء بالفعل .
ابتسم ابتسامة خفيفة ولف عباءة سميكة حولها .
" لا أعرف ما إذا كان علي أن أعتبر عدم تغيركِ أمراً جيداً، أم أقلق بشأن ذلك."
" ماذا عساك أن تفعل الآن ؟ أنت مقيّد بي بالفعل، فلتتحمل الأمر بنفسك."
أطلقت سيرفيليا ضحكة مازحة و سارت إلى الأمام . سمعت صوت خطوات متسارعة تتبعها من الخلف .
لقد أحبت هذه اللحظات .
كل لحظة كان فيها شخص يجدها بشكل طبيعي أينما كانت، يتبعها بشكل طبيعي أينما ذهبت، يمسك يدها و يعانقها، كانت تلك اللحظات تغمرها بالسعادة .
( حقًا ؟ إذاً، هذا أمر جيد )
" هاه ؟ "
توقفت سيرفيليا فجأة .
كانت متأكدة أنها سمعت شيئاً ما، لكن لم يكن هناك أحد حولها سوى لوسيان .
خطر ببالها فجأة أن ذلك الصوت كان لشخص تعرفه . شخص مهم جداً … شخص لا ينبغي أن تنساه أبداً، لكنها نسيته في النهاية …
" ما خطبك ؟ "
اقترب منها لوسيان و أمسك كتفها .
" أشعر أنني … فقدت شيئاً مهماً جداً، ما هو ؟ "
شعرت بفراغ في صدرها، وكأن نصف روحها قد تم قطعه .
بدا لوسيان وكأنه فهم ما تتحدث عنه، فأومأ برأسه بصمت .
لم يتحدثا معاً، لكنهما كانا يعلمان أنهما فقدان شيئاً كبيراً جداً خلال هذه الرحلة .
كلما حاولت التفكير فيما كان ذلك الشيء، ازداد عقلها تعقيداً . كما لو أن شخصاً ما في الجانب الآخر كان يمنع ذاكرتها بالقوة .
" … حسنًا، هل هناك شيء أهم مني بالنسبة لجلالتكِ ؟ "
الآن، حتى الدعابات الساخرة تأتي منه بشكل طبيعي .
كانت سيرفيليا تشعر بالقلق من أن لوسيان بدأ يشبهها تدريجياً، ولكن في الوقت نفسه، لم تستطع التحكم في طرف شفتها الذي ارتفع إلى الأعلى .
" هذا صحيح … لا يوجد شيء من هذا القبيل "
كان على حق … بغض النظر عما فقدته أو نسيته، ما دامت تملك هذا الرجل بجانبها، فماذا تحتاج أكثر ؟
لم يكن هناك شخص أهم منه في هذا العالم . كل المساحات التي فقدتها، امتلأت بلوسيان، وهذا كافٍ لهما .
" الرياح باردة، لندخل الآن، سيرفيل "
" حسنًا، لوسيان."
أمسكت سيرفيليا بشكل طبيعي بالذراع التي مدها لوسيان .
بدأت خطواتهما على الأرض المتجمدة الصلبة تتوافق ببطء .
تناثرت الثلوج المتساقطة من الأشجار فوق رأسيهما وكأنها بركة، لكن ربما بسبب دفء الأيدي المتشابكة، لم تشعر سيرفيليا بأي برودة على الإطلاق .
عند التفكير في الأمر الآن، حتى كل المصائب التي مرت بها لا شيء مقارنة بهذا الحب .
حتى لو اكتسبت القدرة على عبور جميع الزمان و المكان في الكون، فإنها ستختار هذا الرجل هنا، وهذا العالم الآن .
نعم، هذه هي الحياة الوحيدة التي ستعيشها .
— النهاية .
****************************